كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم
ضمان تكافل المجتمع ومنع الاحتكارات وتحكم فئة من الأغنياء
أولا: مقدمة
في هذه المقالة القصيرة نتطرق لمسألة توزيع دخل الأمة ومجريات صرفها والقواعد التي تحددها. هناك آيتان حسب المذكور أدناه تعالجان هذه المسألة بشكل معقد نسبيا لكنه متكامل. بعد التدقيق تتبين بعض الأمور التي لا تتبلور حين معالجة المسائل منفصلة وهذه إحدى ميزات فهم النصوص حسب الفهم الأولي للنص ثم السياق ومن ثم التأويل الذي ينسجم مع شمولية الفهم في القرآن. سنطبق النهج ونصل إلى مجموعة من النتائج والتوصيات بخصوص تكافل المجتمع ومنع تحكم طبقة من الأغنياء.
مرجعية الحكمة والصلاح والخير: ننطلق من فهم عميق للآية: لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد (فصلت-42)
- لا يأتيه الباطل من بين يديه: يعني لا يحتمل نشوء خطأ من منطقة الذاتي أي أنه منسجم ذاتيا ولا يحتوي أية تناقضات.
- ولا من خلفة: أية محاولة لتحريف فهمه من خلال تأويل باطل يمكن كشفها إذا اختبرنا المعنى المحرف على معيار آيات القران الشاملة وسنكتشف تناقض ذلك مع انسجام القرآن.
- تنزيل من حكيم: الحكمة تعني الحلول الصحيحة التي تحدد الصلاح والخير والحكيم من يملك تلك الحلول.
- حميد: تعني كل ذلك يستحق القبول والشكر.
ثانيا: قواعد التفسير
2-1 قواعد ومرجعية فهم الاسلام
- المرجعية للقرآن والثابت من المنسوب للرسول بما لا يتناقض مع القرآن أو يضيف لأصوله.
- التمسك بالنصوص بدقة هو الأهم لأنه الوحيد الذي يمكن أن يكشف الغث من السمين من التراث وينقحه.
- أي تنقيح يقوم على مقولة العقل المفتوحة لن يثمر، فالعقل قادر على اختراع أفكار فاسدة أكثر من الجيدة ونسبة الجيد من تفكير العقول لا تزيد عن 5% والباقي خرابيش وأوهام. ما يتفتق عنه ذهن حضارة الووك في الغرب مثلا خير دليل على تدهور العقل دون مرجعية.
- الحلول الصحيحة وهي ربما ما نقصد بالعقل هي مجموعة صغيرة من الحلول الممكنة لمشاكل الأشياء. هناك فرق كبير بين معرفة الحلول الصحيحة من خلال منهج بمرجعية وبين الانطلاق عشوائيا مع نجريب كل الحلول واعطائها نفس القيمة قبل التجربة.
- لذلك هي رحمة من الله ان وفر للإنسان إجابات مرجعية تحميه من خرابيش العقل الواهم.
2-2 أهمية التفسير المنهجي للقرآن والحديث وتنقيح التراث.
أفضل طرق فهم وتفسير القران تقوم على الترتيب التالي وهو المألوف في فهم النصوص عموما:
- الأخذ بأولوية المعنى الصريح للنص وعدم قبول غير ذلك، إذا كان الفهم معقولا. عموما نصل لفهم فريد مميز.
- إذا حصل للنص تعددية معاني يؤخذ بأفضل السياق الممكن وفي العادة نصل لحل فريد مميز.
- إذا ظل هناك تعددية معني بعد الفحصين السابقين يمكن اللجوء للتأويل بما يكفل الوصول لحل مميز، لا يتناقض مع نصوص صريحة أو معاني مثبتة من نصوص أخرى. إذن يسمح فقط بالتأويل إذا لم يتوفر حل صلب من النص او السياق وعندها يؤخذ الأرجح ضمن التأويلات.
- أخيرا يجب رفض أي تأويل يتناقص مع القرآن فذلك يعتبر تحريفا وليس تأويلا.
ثالثا: محتوى التفسيرات
نناقش اية الانفال 41 واية الحشر 7 للوصول الى فهم للآليات توزيع ثروات الدولة في الحرب والسلم وأهمية بقاء المجتمع متكافلا وبعدالة مستقرة. وقد استعنا بمراجع التفسير وتبينت تعددية هائلة في فهم المعاني مما جعلها صعبة الاستخلاص دون تمعن أدق في فهم الآيات والنصوص. وهذا مثال على قدرة القرآن على كشف الغث من السمين عند فهمه الشامل بالمنهج العلمي دون اقتطاع ودون فرضيات مسبقة.
3-1 آية الانفال 41
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ- الانفال 41
هذه الآية تتحدث عن الغنائم من الحرب، وقد تم توزيعها لله والرسول ( للدولة) وذوي القربي من عائلة الرسول أو الخليفة (البعض شمل بني هاشم وآخرين شملوا كل قريش. ذلك لا يستقيم وخاصة بعد عشرات الأجيال)- واليتامى والمساكين وابن السبيل مفهومة. هذا يعني أن غنائم الحرب يذهب أربعة أخماسها للمحاربين أو الة الحرب، والخمس للدولة وذوي الحاجة ولم يحدد هل التوزيع بالتساوي أم بأولوية كفاية تراتبية. هنا اعتبرنا الدولة جهة الرسول، والله مالك الأرض وذكره فاتحة الحديث.
اختلف المفسرون بشكل واسع جدا في فهم هذه الآية، وهناك طيف متناقص في تفسير هل الخمس يشمل كل الفئات أم أن لكل منهم خمس وبذلك تذهب حصة المحاربين. من هم ذي القربى، وهل الرسول بصفته الاعتبارية أم الشخصية. اسئلة مرتبطة مثل لماذا ذكر الله اولا تبعه ذكر البقية بالعطف. المفضل الأخذ بالروايات لكنها ليست محصورة فعلا. يمكن تدقيق الاختلافات ومناقشتها لاحقا. ما ذكرت اعلاه يمثل الأقرب لتحقيق السياق في حالة غنائم الحرب.
3-2 آية الحشر 7
مَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ ۚ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ- الحشر 7
هذه الآية تعمم توزيع دخل مصادر غير حربية من البلدان مثل الجزية والخراج ومنطقيا تشمل الضرائب بمختلف أنواعها، وقد اعتمدت كاملة لنفس الجهات دون تحديد هل التوزيع بالتساوي أم بأولوية كفاية تراتبية. فلو اراد التساوي لربما استخدم نصوصا شبيهة بالإرث، اما التراتبي فيفترض أولوية بالكفاية. هنا تصبح حصة الرسول أقل بكثير من حصص اليتامى والمساكين وبن السبيل. هنا أيضا اختلفت التفاسير بشكل واسع، بل تم خلط غنائم الحرب مع الفيء دون حرب مما يلغي المحاربين. وهذا لا يستقيم. لم يكن سهلا الوصول الى اجابة حاسمة الا اجتهادا.
في آية الانفال حصة المحاربين 80% ما بعد اقتطاع الخمس للفئات الستة ( الله والرسول وذي القربى واليتامى والمسكين وابن السبيل) وباعتبار أن كل المال لله فما يحتسب خمسة. في آية الحشر توزيع الدخل كاملا للفيء وليس هناك محاربون.
نلاحظ أخيرا أن الله سدد على التقوى وانه شديد العقاب. هذا يعني انها مسألة الزامية على الدولة حلها وسبق ذلك بما أتاكم الرسول فخذوه وتعني ان متطلبات تنفيذ ذلك ربما تتطلب اقتطاعات إضافية من الناس أو ضرائب لتغطيتها. وقد ذكر كل ذلك بعد كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم للتأكيد على منع حصول ذلك.
3-3 آية التوبة 60
إنَّمَا ٱلصَّدَقَٰاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاٰكِينِ وَٱلْعَٰامِلِينَ عَلَيْهَا وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى ٱلرِّقَابِ وَٱلْغَٰارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
المصدر الثالث للدخل مختلف فهو تبرعات أو زكاة. الزكاة فريضة لكنه في النهاية إجراء شخصي لا يمكن للدولة مراقبته ويظل عبادة كالصلاة والصوم من شبه المستحيل ان تتم الزامية وتحت الرقابة.
هذه الأموال الحرة نسبيا حددت لها المصارف أعلاه وتداخلت مع السابقات في المساكين وابن السبيل وبترتيب مختلف, وحيث أنها تطوعية وخاصة الصدقات فلا معنى لوضع ترتيب أولوية او كفاية فهي مفتوحة حسب الحاجة. ربما يختار شخص تحرير الرق وآخر يفضل ائتلاف قوم وآخر يريد انقاذ محتاج. طبعا يمكن للدولة تنظيم ذلك ومن الجيد ان يبحث الناس المتبرعين عن آلية اولوية حسب الواقع لكن ذلك ليس ثابتا فيترك لحرية التقييم.
نلاحظ أنها تشمل في سبيل الله وهو التطوع للحرب والجهد الحربي. غير هذا المصدر هناك أيضا الغنائم. وعليه فالجهد الحربي منظم بحروب رسمية يفتر ض النصر بها وغنائمها أكثر من خسائرها والآخر تطوع من خلال تمويل فردي أو جماعات أو إقرار قوانين خاصة تنال موافقة أغلبية الناس. لكنها ليست من فئات الصرف الالزامي الصرف لان الحروب ليست إلزامية بذاتها.
رابعا أسئلة جذرية
- من هم المحاربون: وهل الشهداء لهم أسهم ام تذهب حصصهم، وماذا اذا خسر المحاربون هل ينتهون دون حقوق. في هذه نتعامل مع المحاربين وآلة الحرب كوحدة تحصل على 80% من غنائم الحرب للحفاظ على مصالح المحاربين والة الحرب. بالمعنى الحديث هي المجمع العسكري بكل مركباته
- من هم ذي القربي: هل يمثلون أقارب الرسول المعاصرون من الدائرة الضيقة ام يستمرون ليوم الساعة مهما زاد عددهم وهذا لا يبدو منطقيا. البديل ان ينتقل بالتالي لأقارب الحاكم من الأسرة الضيقة ام تشمل كل النسل منهم. هنا يبدو الامر متحيزا لفئة ابديا ولا يعكس العدل المفترض. لذلك نميل لاعتباره بند مساعدات ذوي القربى الضيقة والمعاصرة للرسول او الحاكم وتعتمد قيمة لها حسب المتطلبات تقدرها الأمة.
- ما هو الفيء: هل هو ما تم تحصيله من غير المسلمين مقابل معاهدات ام يشمل ما يجمع من المسلمين من الخراج وهو من مسلمين تم ابقاؤه بعد اسلام تلك الامم وماذا عن الضرائب على الرعية. لذلك ولتوخي العدل نصل الى ان الفيء هو دخل الدولة من كل المصادر غير الحربية غير الزكاة والصدقات. وتلك فروض دخل مقتصرة على فئات محددة.
- كيفية توزع الاسهم للفئات: هل تتم بالتساوي ام بما يلزمها ضمن أولوية كفاية حسب الترتيب. نميل أنه أولوية كفاية لأن الفئات لا تتساوي في حاجاتها او حجمها ولا تبقي كذلك. بعد الحرب تكون نسبة اليتامى كبيرة جدا وفي السلم تتغير النسب وفي الأمن لا يظهر أبناء سبيل كثيرون وهكذا. في الحرب تصبح المتطلبات أعلى من الرخاء. لذلك شرط الكفاية ضمن تراتبية يبدو منطقيا أكثر وهذا يتطلب تشريعات محدثة وليس هناك قاعدة ساكنة.
- تناقضات التوزيع المتساوي: إذا اعتبرنا التوزيع بالتساوي فهذا يعني ان للدولة سهم وهذا يشمل الرسول بصفته الاعتبارية. لأقاربه سهم تبدو شاذة، واليتامى والمساكين وبن السبيل تبدو اختيارية، فلماذا لم تشمل الذين ذكرتهم آية الصدقات ولكن تداخلت معهم.
- هل هي مرونة: اختلف الاجتهاد على مر العصور بشكل كبير وحصل شطط احيانا كثيرة. لكن عدم حسم الاجابات لا يعني سببه توفير مرونة في التوزيع تتناسب مع الظروف. ثمن المرونة حصول اخطاء ويبقى خسائر لكن تظل اخطاء المرونة اقل من تصلبها وتكلسها أذا كان الفهم صحيحا. أسئلة أخرى بحاجة الى تسوية لا يلزم التطرق لها هنا ويمكن متابعتها منفصلة
خامسا: استنتاجات أولية
- مال الغنائم يذهب لآلة الحرب بنسبة 80% ويقتطع لفئات محددة 20% ويمكنه أن يكون صفرا إذا لم تكن حروب.
- مال الفيء يوزع على نفس الفئات التي حصلت على ال 20% سابقا ومن شبه المستحيل ان يصبح صفرا.
- يتم التوزيع بأولوية كفاية تراتبية.
- هناك نسبة كبيرة من الدخل العام للدولة تذهب للأمن والخدمات، والدخل العادي لذوي الحاجة. النص يوضح ان ذلك لمنع حصر الأموال دولة بين الاغنياء.
- هذا يعني رفض تمكين السيطرة على موارد البلد بالاحتكارات وهي محرمة أصلا. ذكر الا تكون دولة بين الأعياء يعني ان القاعدة المحددة هي منع سيطرة مجموعة على مقدرات الدولة وهو يعني رفض أي شيء يؤدي الى ذلك. المصارف المذكورة تمحي جزءا مهما من الدخل لهذه الجهات وهذا في الأرجح يضعف قدرة التربح والاحتكارات. لكن ذكر كي لا تكون دولة بين الاغنياء يعتبر السبب الرئيس منع التحكم كهدف بذاته وليس نتيجة. هذا يعني اذا لم يمنع التوزيع ذلك فلا بد من إجراءات وقاية.
- هذه تشبه تحريم الاسترقاق دون تحريم التعامل بالرق. هنا يحرم الاحتكار والتحكم لمجموعة قليلة دون منع التجارة والسوق. لذلك يمكن القول بجواز وضع سقوف على دخل الاغنياء بطريقة متحركة تكفل نشاط الاقتصاد دون تحكمهم، وتقييدهم دون قتل دورة الاقتصاد.
سادسا: نتائج وتوصيات
- يمنع احتكار أموال الامة لطبقة من الأغنياء ويجب إجراء ما يلزم لمنع حصول ذلك.
- تحديد صرف موارد الدولة بمجملها لجهات محددة بما يكفل حقوق هذه الفئات وتكافل المجتمع، ويساعد في منع تحكم فئة احتكارية.
- كل اموال الدولة غير الحربية والزكاة والصدقات تذهب لهذه الجهات. أما الزكاة والصدقات فتذهب لجهات محددة مع وجود هناك تداخل مع الفئات المحددة هنا. هذا يوفر اكثر من مصدر لضمان حقوق تلك الفئات.
- آلة الحرب تتطلب توفير دخل من عملياتها والدخل الحربي لا يقتصر على ما ورد، ففي سبيل الله يمكن اقتطاع من اموال الزكاة والصدقات. لكن يبدو أنه لا يجوز فرض الضرائب باسم الحرب وهذا ملفت فهي تعتمد على الغنام من العدو والصدقات والزكاة بمعنى ضرورة قبول ورضا الأمة عن المجهود الحربي ولا يجوز للحكم فرضه عموما. وهذا جيد للجم النوايا العدوانية عند الحكام عموما حين يمتلكون قوة جبارة.
سابعا: مراجع: