العقيدة والقرآن واللغة والسنة النبوية

January 15, 2025 Off By Salman Salman

العقيدة والقرآن واللغة والسنة النبوية

د. سلمان محمد سلمان – أستاذ الفيزياء النووية والطاقة العالية – قلقيلية – فلسطين

يكثر الحديث عن الدين الإسلامي ويجتهد المشاركون كل من وجهة نظره في إثبات أحقية نظرياتهم. فمنهم من ينظر للقران وحده وكأن الرسول ( ص) – حاشى لله “ساع حمل الرسالة ولا يجوز له فتحها” ويضعون أنفسهم بمرتبة أعلى في كثير من الأحيان عندما يسمحون لأنفسهم تفسير القرآن كما يرغبون ولا يعطون الرسول (ص) حقا كذلك من خلال إنكار أي تدوين “ليس بسبب التشكيك في أصليته وإنما لأنهم يرفضون مبدأ مشاركة الرسول(ص) في التفسير”.

يقف لهم بالمقابل “أنصار السنة” بالمرصاد يشهرون سيوفهم ويلعنوهم ويحقروهم كأنهم في ساحة الوغى, وكأن الشتم أفضل طريقة للإفحام وفي ذلك هم يضيعون كثيرا من الحق في قضيتهم مع أنهم مختلفون في تقييم ذلك. فالبعض يتعامل مع السنة المدونة كأنها منزلة ومحفوظة غير قابلة للتشكيك في تفاصيلها ويضعونها بمستوى القرآن. ويحاول الاستعانة بالقرآن لإثبات أن السنة النبوية موثقة ومنزلة من الله على الرسول ولا يميزون حقا بينها وبين القرآن مما يفتح المجال للطعن الكبير خاصة إذا تم اخذ السنة كما هي مفهومة بما هو مدون عن الرسول (ص) وليس بما هو ثابت عنه.

من خلال السجال الدائم ودعوة “أهل القرآن” “والربانيين” – كأنهم يقيمون الدين من جديد في مكة، وكأن أهل السنة كفار قريش فقد ضاعت حقائق كثيرة. وعندما يسمح البعض بالاستهزاء من “دين السنة” فكأنهم يقلدون الأنبياء في استهزائهم بآلهة الكفر كما فعل إبراهيم والرسل. والحقيقة أن كل ذلك تجاوز للمعقول.

تنطلق دعوات من غير مسلمين أو ملحدين للتشكيك ضمن هذه الحملة الشعواء للطعن في القرآن نفسه. وهذا متوقع فعندما تحتدم معارك التشكيك بين السنة والقرآن يصبح من السهل فتح كافة الملفات ومنها التشكيك بالقرآن.

هذا ما يظهر من كتابات البعض وهم يراوحون بين محبين للدين مشفقين على المسلمين “الذين لم يفهموا دينهم أبدا، ويتطوعون لتعليمهم ما خفي من دينهم” أو يتم اللجوء للتشكيك المباشر في صحة دعوى أن الدين من عند الله، أو أن القرآن منزل، وذلك من خلال التشكيك في صلابة بنائه اللغوي، وخاصة أن المسلمين ينطلقون دائما من مقولة استحالة تحوير القرآن. وعليه فأي طعن ولو بحرف من القرآن يمثل نقضا للكمال القرآني مما يطعن بمقولة نزوله من السماء وأنه كلمات الخالق.

في مقالة بخصوص حفظ القرآن تطرقت بعض التعليقات لذكر أمثلة عديدة تطعن في صحة اللغة في مواقع مختلفة ما استفز العديد من المشاركين للرد كل كما يرى، وبطريقة تبدو عفوية ومتناقضة احيانا تؤدي بجاهل في اللغة وأصولها وبغير المسلم للتشكك أكثر، أو تخلق حالة هلع عند المسلم البسيط عندما يرى أمثلة بها طعن مباشر في صحة القرآن.

لهذا فمثل هذه الحملات تستحق متابعة من المهتمين والمشاركة بشكل موضوعي عند الأخذ بالاعتبار جمهور القراء متعدد المشارب والمستويات الذهنية والثقافية والمنطلقات النفسية والاجتماعية ويتعرض يوميا لضغط ثقافي واجتماعي لإقناعه بعدم جدوى التمسك بقدسية للإسلام. وهذه تجربة يتعرض لها الكثير ممن يعيشون في الغرب ويعانون منها كثيرا، مع أن أغلبهم يتجاوزها في النهاية، ويتمسك بمعتقداته رافضا منطق التشكيك وهذه مسألة جوهرية تستحق النقاش لذاتها.

سأحاول في هذه المقالة مناقشة 3 نقاط جوهرية

الأولى تتعلق بالعقيدة وأسس الاعتقاد.

والثانية تتعلق بمسألة القرآن واللغة.

والثالثة أوكد موقفا تطرقت له سابقا للعلاقة بين القرآن والسنة.

1- مقولة الاعتقاد

المعتقدات أساسا هي ملخص منطقي مؤطر بمفهوم لغوي تعتمد في الإيمان بها على حقائق تأكيدية من الواقع وفرضيات أولية يقوم عليها المنطق وانسجام منطقي داخلي. وفي الغالب يصل معظم المؤمنين بالمعتقدات للإيمان بها دون وضوح في تدرج الأسس المحددة أعلاه، لكنها شروط هامة لاستقرار المعتقد حتى دون إدراكها الصريح من صاحب العلاقة. طبعا يمكن أن تكون المعتقدات باطلة بسبب خلل في التسلسل المنطقي أو في المسلمات الأساسية، أو بسبب إفساد لاحق للمحتوى النموذجي لها بسبب تداخل مصالح خاصة مع النسق العام للمعتقد.

الأساس الأول هو الإيمان بمسلمات النظرية. بدون مسلمات لا يمكن وضع منطق. المسلمات طبعا غير قابلة للإثبات من قبل النظرية “مع أنها قابلة للمعايرة” لأنها أساس المنطق نفسه. وهي مسلمات لأننا نحتاجها دون إثبات. وهكذا لا يوجد في العلوم والرياضيات أي نظريات مطلقة الثبات، لأنها جميعا تقوم على مسلمات تم الإيمان بها من خارج النظريات بناء على خبرات، إما أن تكون تجريبية أو قياسية أو استنتاجات تعميمية عقلية وجدانية.

بالنسبة لتجربة الإيمان الديني بالله والغيب والرسل والحياة الدنيا وقيودها وارتباط ذلك بعالم الغيب والآخرة، من غير الممكن إثبات كل ذلك نظريا أو بمنطق معين. واهم مسلمة سابقة للالتزام بأي دين هي الإيمان بالخالق. والمسلمات تعتمد الإحساس الوجداني وهو إحساس داخلي. يبدو أن الإنسان مصمم ليدركها دون واسطة ( على الأقل هذه هي المسلمة الرئيسة في اعتماد الدين على الإيمان).

بهذه المسلمة فدعوة القرآن والكتب السماوية تبدو تذكيرا أكثر منها إثباتا. والقرآن الكريم يذكر الناس في أغلب المواقع أن ما يطالبهم به القرآن هو ما يدركونه في وجدانهم فلا داعي للجدل الكثير. ومنطق القرآن اليقيني في مهاجمة من لا يؤمنون، يستنكر على من هو مصمم لاستقبال موجه الإيمان وهي تبث له يوميا لكنه يصر على عدم السماع بسبب فساد في الالتقاط أو عدم رغبة في السماع، سببها أطماع معيشية مؤقتة أو خوف أو وسواس شيطاني.

هكذا تقوم مسلمة الإيمان الأولى: وعليه فمن المستبعد أن تثبت لأي إنسان صحة الإيمان إذا لم يدرك ذلك هو نفسه داخليا. وبنفس الدرجة لا يمكن اثبات عكس ذلك مهما كانت المقومات لإقناع مؤمن بالكفر، وهذا معنى أية ” “إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو اعلم بالمهتدين” – القصص: 56. وكما اعتقد فمن يشاء تعود للشخص، مع أنها لا تتناقض مع الإرادة الإلهية لأن الله من يحدد ذلك وهو بكل شيء محيط.

إذا توصل الإنسان للإيمان وجدانيا يصبح المطلوب توفير منظومة فكرية منطقية بمسلمات معقولة وبمنطق منسجم ذاتيا تقوم عليها فكرة الإيمان لتنشئتها وتعميقها. وهذا ما يحصل عادة بالتدريب، وحسب الحكمة الإلهية يتم من خلال الإكثار من قراءة القرآن والتمعن بمعانيه. يمثل القرآن المنهج المنطقي الذي تقوم علية مقولة الإيمان، وبدون القرآن من غير السهل اكتساب الرسوخ الإيماني والانسجام المنطقي. وهذا ما يكرره كثيرون ممن يقرأون القرآن بشكل متصل حيث ينتابهم إحساس بالانسجام والسكينة لا يتوفر لمعظم من يتعاملون مع القرآن كمرجعية عند الحاجة. فالقرآن في الحقيقة ليس مرجعية عند الحاجة فقط لكنه كتاب المنطق الإيماني بإجماله العقائدي والتطبيقي.

بما أن القرآن كتاب المنطق الديني، فمن المهم أن يكون منسجما بذاته دقيقا في منطلقاته، وأن يقوم على مسلمات لا تتغير، ولا يحمل أي تناقض داخلي. ويعمم هذا على الفهم اللغوي أو المعنى الإدراكي أو التسلسل الروائي أو القدرة على الاستنباط لتسهيل مسيرة الحياة وتوفير ما يكفي من المؤشرات والنبوءات التي تجعل إدراك الواقع التجريبي منسجما مع محتوى هذا الكتاب.

باجتماع هذين الأساسين (الإيمان الوجداني والقرآن الكريم) يختلف او يتميز المسلم عن غيره. فليس من المستحيل على أي إنسان إدراك الإيمان الوجداني، فهذا مفتوح للمسلم وغيره. لكن ما يميز المسلم هو توفر الكتاب المنطقي. نفس الأمر ينطبق على المسيحي والإنجيل وأي دين آخر. اختلاف أهل الكتاب مع بعضهم هو على من يحمل كتاب الحكمة والذكر المناسب للشعور الوجداني بالإيمان.

يعتقد كل دين طبعا بصحة كتابه ويسوق انسجامه المنطقي. وهذه هي خلفية دعوة القرآن في مواقع عديدة، عندما يتحدى أهل الكتب السابقة إن كانوا يستطيعون فعلا نفي ما يأتي به القرآن، الذي يؤكد على الكثير مما وردهم لأن أساس الجميع واحد.

طبعا ما يفسد الأمر ويجعل أهل الأديان شيعا ومتصارعين، هي عوامل دنيوية ليس لها علاقة بالإيمان بالله فعلا. فمن غير المعقول أن أتصارع مع مؤمن بالله ويحس بوجوده بفطرته ولو لم يكن مسلما. لن يصل الخلاف معه إلى صراع حقيقي، إلا إذا كانت أسباب الفرقة خارجة عن هدف الإيمان بالله.

وهذا مفهوم ومصدق على مدى تاريخ الحروب الدينية التي حملت شعار الحفاظ على الأديان مع أنها كانت لخدمة مصالح فئات دنيوية تشترى في اغلب الأحيان بآيات الله ثمنا قليلا. وهذا يتردد بوضوح في القرآن عن المفسدين في الأرض. وهو ما يؤكد فرضية وحدة الدين وأن اختلاف البشر بخصوص الإيمان سببه مصالح دنيوية تمنع القبول برسالة الله ببساطتها وعمقها معا.

تبدأ الفرقة عندما يبدأ تحديد السلوكيات الناجمة عن الإيمان، وهي تشمل الأخلاق والاقتصاد والاجتماع والحروب والوحدة الإنسانية والحرية ومساواة البشر وهلم جرا. أسباب الفرقة لا علاقة لها بالإيمان، وإنما أساسها غرائز بقاء الذات والنوع. وهى قوى طبيعية مستقلة وفاعلة ورهيبة التأثير في مداها القصير وأقوى من قوة التكامل الوجودي التي تفتح الإدراك للإيمان.

عندما يتأطر الخلاف بمصالح فردية أو طبقية أو قومية أو سياسية، يتم التعبير عن ذلك باختلافات في الطقوس لترسيخ مقولة اختلاف الأديان جذريا، مع أننا نعرف اشتراك الأديان في كثير من الطقوس أساسا وتم الاختلاف بينها لاحقا.

هذه الأسس التي تميز الأديان عن بعضها لا تشمل مبدأ الإيمان الوجداني نفسه. وقد التقيت بمؤمنين بالله بأفضل التعبيرات الممكنة وكأنهم يدركون كل شيء، لكنهم لم يتعرضوا بما يكفي للمنطق اللاحق ليتميزوا بإسلام أو مسيحية أو غير ذلك. وهذا يؤكد أن الناس اقرب مما يعتقدون من بعضهم وبعدهم مرهون بتناقضات مصالح دنيوية أكثر من أي سبب آخر وليتذكر الناس ذلك.

تثار عادة مسائل أن المؤمنين درجات، وأن القليل جدا من الآخرين يتميزون عن غيرهم بدرجة الإيمان. ومع أن هذا لا يتعارض مع دعوى القرآن بقلة المؤمنين المميزين فعلا: فهم “ثلة من الأولين وقليل من الآخرين”، إلا أن الإصرار على تمييزهم من خلال تعريف علامات مميزة أو طقوس مختلفة يمثل دعوة خطيرة لتحويل الدين للنخبة، كما هي حال بني إسرائيل.

لا يمكن للإسلام أن يكون كذلك فهو مفتوح لكل الناس. ومواصفات التعريف سهلة بشكل عام لفتح المجال لاحتواء كل البشر ضمن الإسلام. فإذا بدأنا الاعتقاد بنخبوية المسلمين ودرجاتهم نتحول لتدمير الأساس الرئيس الذي يجعله قريبا إلى الفطرة ويشمل ذلك منطق الناس العاديين. بل يبرز تناقض موضوعي: إذا تم اقتصار الإيمان لنخبة مميزة فكأن الآخرين مكتوب عليهم العذاب أصلا. وعندما يقترن ذلك بوضع تعريفات دنيوية حتى لو تقمصت أسسا قرآنية يتفاقم الخلل الجوهري.

الإسلام دين الله لكل البشر وللجميع أهلية الانضواء أو التميز. والتميز يعتمد على عمق الإيمان والالتزام وعمل الخير. وما علينا إلا أن نبذل كل جهدنا، والله وحدة يقرر من يستحق الدرجات. من الخطأ ترتيب طبقات الإيمان دنيويا لأننا بالفعل لا نعرف من يستحق تلك الدرجات في الآخرة.

كما أوضحت أعلاه فليس الخلل فقط في الأساس المنطقي، ولكن بسبب المردود العملي السلبي على الدعوة البشر. فكيف يعقل أن تدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة مع قناعتك أن معظمهم راسبون مسبقا. وكيف يمكنك إقناعهم بالإيمان، وأنت تكرر لهم استحالة أن تكون غالبيتهم كذلك. هل يعقل هذا منطقيا أو عمليا.

2- مسألة القرآن واللغة

لأن القرآن يمثل كتاب المنطق الذي تقوم عليه مقولة الإيمان الديني (وهنا لا ننتقص من حقيقة الإيمان حسب فهمنا السابق الذي يفترض مسلمات إيمانية لوضع نموذج المقولة المتكاملة التي نطلق عليها نظرية) فان دقة قراءته هامة وعدم التحريف به مقدس، لأن أي تغيير يمكن أن يخلق تناقضات تؤدي إلى تدمير مفعوله المنطقي في ترسيخ الإيمان أو التطبيق العملي لتعالميه.

لا بد من حفظ نصه حرفيا لضمان عدم التلاعب. وإذا تشكك الإنسان في القرآن، فلا يمكنه البقاء مسلما بعد ذلك. وعليه فالحاجة ماسة حقا للمؤمن ألا يشك بالقرآن. والمسلم يعتقد بذلك حسب منطق القرآن بأنه محفوظ. ومع أن هذا لا يبدو ذا قيمة منطقية لغير المسلم، لكنه ذا قيمة كبرى للمؤمن المسلم لأنه أساس بقاء الاعتقاد قائما بحفظ القرآن من التحريف. وحفظ النص يتطلب حفظ المعاني طبعا وما يتعلق بالإعراب والنحو. من الواضح أن حفظ نص القرآن هام جدا لكل مؤمن وأي تشكيك يفتح المجال لكل أنواع الردة والاغتراب. تناوب استخدام المؤمن والمسلم هنا لا يقصد به الفصل، وإنما القصد في الحالة المؤمن من المسلمين لأن المسلم دون إيمان لا يكفي حسب القرآن نفسه، ولأن هناك مؤمنون جوهرا لا يتبعون الإسلام).

وقد انطلقت روايات كثيرة تدعي تحريف القرآن واستعان البعض بروايات عن حذف سور أو آيات، لكنها ادعاءات لم تثبت بشكل مقنع أبدا. ومن السهل على المسلم رفض مقولات التحريف بالاعتماد أن النص المتوفر حاليا هو نفس ما وثق زمن الرسول(ص) ، أو دقق في زمن عثمان مع أن البعض يشكك في بقاء نفس الأصل.

البعض الآخر يريد الطعن بالقرآن من خلال التشكيك في تسلسله اللغوي أو المنطقي، من خلال إبراز مكامن لانحراف لغوى أو تناقض في المعاني. وهذا في الحقيقة اشد وطأة من التشكيك الأول المتعلق بالحذف والإضافة. لأن التشكيك بتحريف النص سهل الادعاء من قبل أي شخص لكن من الصعب عليه إثباته أيضا. وهذا قائم لأي نص أو كتاب فمن السهل أن أدعي أن النظرية النسبية تشمل فوق ما هو موثق عنها، فرضية أن الشياطين تسير بسرعة أعلى من سرعة الضوء!. لكننا نعرف أن هذا غير موجود في النظرية ولا يمكنني فرضه عليها بمجرد أن يخطر ببالي ذلك أو لنفي أو اثبات أمر أريده.

لكن محاكمة النظرية تصبح فعالة وذات مغزى إذا استطعت إثبات وجود تناقض داخلي في متن النظرية أو انحراف في المفاهيم أو الاستعانة بمفاهيم متناقضة، أو استطعت إثبات وجود خطأ فاضح بها. عند ذلك يبدأ الشك بالنظرية مبررا. وهذا هو المقصود عند التشكيك في انسجام القرآن مع نفسه من خلال أمثلة عن خلل لغوي أو تناقض في المعاني.

الحقيقة أن الكثير من منطق دفاع المتمسكين بالقرآن يساعد المشككين أحيانا. فوق هذا فإن بعض الروايات عن أحاديث تتناقض مع القرآن يجعل التشكيك أكثر شدة. وهذه عادة هي الحجة التي يعتمد عليها من يرفض السنة جملة، لوجود تحريفات موثقة في ما يروى عن الرسول الكريم.

لكن لنسأل: من يحدد التناسق اللغوي: هل هو الخليل ابن أحمد أم أبو الأسود الدؤلي أم سيبويه. ومع كل الاحترام لجهود هؤلاء، إلا أنهم علماء لغة حاولوا بلورة قواعدها وليسوا واضعيها بالتأكيد. وتنظيرهم يحتمل الخطأ أصلا، ومن غير المعقول محاكمة اللغة الطبيعية المأثورة والدراجة أمام قواعد العلماء ( مثل حالات الأخطاء الشائعة أو الاستثناء) ومن يعمل ذلك فهو كمن يحاكم الجاذبية وسلوكها حسب نظرية نيوتن بدلا من العكس طبعا.

اللغة موجودة قبل من وثق قواعدها، وهي لغة طبيعية لا تخضع بالضرورة لقواعد صارمة ومصطلح اللغة تعبير مجازي، فنحن نقول في الأصل لسان العرب، لكننا سنتمسك بمصطلح اللغة لدقة المقصود به. فاللغة هي تراكم منطوق الأمة على مدى مئات أو آلاف السنوات وهي قابلة للتطور بل تتطور ومن حقها أن تتطور. وهي تعبر عن مفاهيم الناس ولا تحددها. فاللغة وعاء الفهم وليست مقومه. طبعا هذا لا يعني أن يتفوه الشخص كما يريد ويقول المهم المعنى. نعم المهم المعني لكن التفوه الخاطيء والبعيد عن معروف اللغة يحتمل سوء فهمه من قارئ لا يعرف القصد بمعنى معاكس مما يتطلب تحديد المعنى بدقة. وذلك من خلال التأكيد على استثناء أية مفاهيم تتداخل في المعنى، كما يمارس ذلك القانونيون، أو باستخدام لغوى صلب البنية لا يسمح بالتأويل. والحقيقة أن اللغة العربية قوية وبليغة لكنها تحتمل التأويل. ومن هنا من الضروري قراءة القرآن بدقة كبيرة وفهم المقاصد اللغوية ضمن تسلسل منطقي. لكن الأهم أن يستمر المعنى محفوظا وغير قابل للتأويل بمعنى غير المقصود فعلا.

كثير من تعليقات المشككين تثير عددا من هذه “التناقضات” يتبين عند فحصها بمقياس المعنى أن التناقضات الظاهرية لا تغير المعنى المقصود أساسا وهذا الأهم. وفي أحيان أخرى يتبين أن التفريق في اللفظ يقصد به تمييز معنى دقيق، وهو ما يسمى الإعجاز اللغوي في القرآن.

أعتقد أن من المنطقي محاكمة النص القرآني بهذين المفهومين: دقة المعنى وقدرة التمييز بين معاني متشابهة كثيرة التشابه لكنها مختلفة في المعنى النهائي. لسوء الحظ فكثير من ردود الدفاع التقليدية مرتبكة ومتسرعة وتفتح المجال أحيانا للشك لأنها تبريرية أكثر من جذرية. علينا ان نتذكر ان الله لا يحتاجنا للدفاع عن سنته الدائمة. فقوانين الطبيعة موجودة وفعالة قبلنا بها ام رفضناها، ومن غير المألوف الدفاع عن وجود الجاذبية مثلا بوسائل تبريرية وكأن القانون يعتمد على تصويت الجمهور. طبعا هناك أوضاع يظهر فيها الحق مستضعفا، لكن أهم طريقه لإظهاره هي التمسك بالحقيقة، وعدم اللجوء للتبرير لأن ذلك يضعف أساس حقيقتها في أذهان المستقبلين دون فائدة.

القرآن كتاب منطقي أساسا، وانسجامه المنطقي الذي يقوم على مفاهيم ومسلمات أساسية تمثل أساس العقيدة هو المرجع لتقييم الانسجام. وعند ظهور متشابهات لغوية، ومن الأفضل التمعن بها وعدم التسرع. ففي بعض الأحيان هي صيغ مميزة لا تؤثر على المعنى المقصود كيفما وردت وتمثل مألوفا في الصيغ العربية. لكنها في أحيان أخرى تحمل معنى مغايرا دقيق التشابه مع الفهم الأولي مما يتطلب الاحترام لدقتها. لا أريد الخوض في كثير من التفاصيل لكن سأناقش بعضها ربما للمساعدة في توضيح القصد.

1- الصلاة وتدرج تحريم الخمر

“يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون… إلى بقية الآية.. الله كان عفواً غفوراً” النساء: 43

“يا أيها الذين امنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون” المائدة: 90

يثار عادة أن آية المائدة نسخت آية النساء وكأن هناك تناقضا يتطلب النسخ. والحقيقة أن طرح مسألة النسخ هو بذاته نوع من التشكيك في القرآن لأن من غير المعقول لكتاب محكم أن يحتوي تناقضات تتطلب النسخ وان كان ذلك فمن الأولى شطبها حاشا أن يحتوى القرآن ذلك.

التناقض كما ذكرنا غير موجود في المقام الأول فآية النساء تتحدث عن تعليمات للصلاة شرطها الوعي والسكر لغة هو عكس الوعي تم ذلك بخمر أو مخدر أو بسبب هلوسة المرض. أما آية المائدة فتتعلق بتحريم الخمر وبعض أنواع الرجس الأخرى. وهكذا ليس هناك حاجة أصلا لطرح التناقض.

2- القصاص والطبقية والاجتماعية

” يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى” البقرة: 178 وتتعلق بالديات للقتل ويستنتج الشافعي مقابلة تتم بين الحر بالحر وان القصد عدم مساواة الأنفس.

“وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ” المائدة:45 تتعلق بتساوي الأنفس واعتمدها أبو حنيفة لتقرير الديات أو العقاب وهي الأقرب للمنطق.

الأولى تتعلق بصراع أو اشتباك واسع أو فتنة يصعب فيها تحديد نيات المتصارعين بشكل دقيق وعملية تسوية الصراع تتم بخصم المتعادلات منها لتقليل عمليات التعويض وليس المقصود أن الحر يقتل بحر أو ما شابه. أما الثانية فتتعلق بقصاص القتل العمد ضمن حالات فردية وهنا هي نفس بنفس ولا تهم الرتب الاجتماعية ومن هنا فلا تناقض بين الآيتين أيضا.

من نتائج الخلل في فهم هذه الآيات نرى استخداما سيئا في مجالات أخرى كالزواج والعلاقات الإنسانية بشكل يلغي أي مساواة بين المسلمين حسب أسس الإسلام.

3- الرق والإماء والربا

ومثال آخر لا بد من التنويه له ما يتعلق بالرق، ولماذا لم يحرمه الإسلام بشكل صريح. ولماذا يسمح الدين للرجل بتعدد غير محدود من الإماء هكذا. الموضوع شائك ويحتاج لمقالة منفصلة. نفس الأمر يتعلق بالربا والبيع. ولكن إذا تمت دراسة الأمور بتعمق سنجد إجابات حاسمة في القرآن تلغي أي انطباع بالتناقض وقد ناقشنا ذلك في مقالات منفصلة.

والحقيقة أن فشل عدد من المحدثين والسابقين في فهم لغة القرآن، ربما تم بحسن نية أو لتحريف المقصود من المعنى بهدف تمرير تزوير لمقاصد القرآن. وهذه تجربة طويلة لكنها لم تستطع تزوير القرآن. فحفظ القرآن كان مقدسا لدى معظم المسلمين ولم يسمحوا لأنفسهم تحريفه مع أنهم ربما سمحوا بتحريف مقاصده أحيانا. وبقاء النصوص التي تبدو متناقضة لغويا كما ذكرت الأمثلة يدل حقيقة على أن النص لم يجر عليه تبديل وإلا لقام أحدهم، عندما شك بالتناقض بتصحيحه، لكنهم اختاروا إبقاء النص كما هو خوفا من تحريف لأساس أكثر متانة. وكما يبدو لم يظهر في القرآن أي نصوص تستحق إعادة النظر في صحتها أو تحمل تناقضا في المفاهيم يستحق مناقشة جذرية. هذا طبعا لا يعني أن القرآن لا يحتوي اختلافا عن مفاهيم الآخرين الدينية فهو بالتأكيد يهاجم كثيرا من مفاهيم الآخرين ويصفها بالشرك والكفر. والقرآن هنا لا يجامل أحدا وجدير بالخالق ألا يجامل أحدا.

لكن هذا لا يضعف قوة المقولة. المهم أن يستمر الانسجام الداخلي للقران قائما، أو يظل بناؤه المنطقي متصلا وان تظل معانية مبلورة وواضحة. وفي هذا فإن القرآن كتاب مميز حقا. اقرأه بصمت كثيرا وأتمعن بمعانيه كأنه كتاب منطق أو علم طبيعي، وأجده منسجما منطقة، ويهز أوتارا داخل النفس لا يمكن ترجمتها دائما، وله نمط يرسخ سكينة الإيمان. فالقرآن كتاب يخاطب المنطق دون إغفال الوجدان.

3- أخيرا بخصوص القرآن والسنة

لقد ناقشت هذ الامر بمقالة منفصلة. لكني أود تذكير الكثير من الحريصين على السنة النبوية أن نقد ما يسجل من التراث، لا ينطبق مع إنكار السنة. وأن رفض ما يتناقض مع القرآن في الحقيقة هو شرط ضروري لبقاء الإيمان. أعتقد أن علينا بذل جهود جدية لإعادة النظر بالتراث ليظل القرآن مرجعيتنا الأساسية فهو كتاب منطق الإيمان الذي يقوم عليه الدين فعلا.

إن فحص التراث والسنة المنسوبة للنبي (ص) ترسيخ لتمييز الغض من السمين منها. وهو تأكيد لاحترام قدوة الرسول. والحقيقة أنني لا أستطيع فهم لماذا يتحفظ أي أحد عن أي حديث ثبت له صدق مرجعيته عن الرسول (ص). هل يعقل أن تؤمن برسالة من الله تعالى يحملها رسول اختاره الله وتم نقلها من خلال رسالة صوتية مقروءة، وليست تسجيلا أو كتابا مكتوبا منزلا وتثق بكلمته المنقولة، ثم تشك في قدرته على إدراكها أو تفسيرها أو إسنادها. ثم نأتي وندعي القدرة على فهمها ونبدأ في تفسيرات ربما تحتمل الخطأ أو الصواب.

لكن هذا لا يقلل من مخاطر الاعتقاد بنقاء التراث من التناقضات والتعامل معه بدرجة واحدة مع القرآن لان هناك تناقضات حقيقية في كثير من التراث، ولا يعقل استمرار ذلك مربكا للفكر الإسلامي الحقيقي دون ضبط. ولا يكفي حسب وجهة نظري الاعتماد على وسائل السلف في البلورة والتنقيح، وإنما يجب بقاء باب التحديث والتمحيص قائما وبأساليب البحث العلمي الحقيقية. فطالما كان القرآن مرجعا قائما فلا خوف علينا من الضياع. وبلورة السنة النبوية المنسجمة مع القرآن والمتناغمة معه والمفصلة لشروطه هي ضرورة إيمانية، ولا يكفينا القول أن من سبقنا قد دقق وعلينا الاعتماد على حسن تدقيقهم، وأن لهم أجرا للخطأ وأجران للصحيح ولنا أجر التابعية. فليس هكذا يقوم المسلمون على دينهم.

نعم نحن مسلمون بمسلمات الدين الأساسية، ولا نقبل التشكيك بالقرآن لأن في ذلك انهيار الدين كله. لكن من واجبنا فحص غير ذلك باحترام يليق بدور الرسول الكريم والتثبت مما نسب له احتراما لما يقول وإتباعا يلتزم دعوة القرآن كذلك.

لقد كان الرسول أمينا وناقلا صادقا ووصفة الله تعالي بأنه ذو خلق عظيم. ومن يكون كذلك لا يجوز لأحد يعتنق الإسلام التشكيك به أو بجدوى أحاديثه، لأن في ذلك تشكيك في جدوى الرسالة نفسها. ونربأ بأي مسلم السماح لنفسه أو لوسوسات شيطانية أو هلوسات عقلية، تشويه صورة النبي العظيم كشخصية مركزية مميزة في الإسلام وفي استقبال الرسالة السماوية النهائية.

والله من وراء القصد.

مرفق رقم 1 الدكتور أحمد صبحي منصور ومذهب أهل السنة – د. سلمان محمد سلمان

http://alhaqaeq.net/defaultnew.asp?rqid=2&secid=5&art=71863

هذه المقالة بالأساس تقييم لموقف ودراسات واجتهادات الدكتور أحمد صبحي منصور الأزهري والذي فصل من التدريس بالأزهر لأسباب خلاف في الرؤية الدينية بينه وبين مشايخ الأزهر وما تبع ذلك من هجرة له للولايات المتحدة واستمراره بنشر مقالات مثيرة للجدل دينيا وسياسيا واقتصاديا. وللتفصيل يمكن الرجوع لموقعه http://www.ahl-alquran.com/English/aboutus.php#intro وهو يعتبر نفسه قرآنيا يكتفي بالقرآن الكريم مرجعا للحقيقة التامة.

لكن المقالة أيضا محاولة لتسوية أمور خلافية يعاني منها الاجتهاد بشكل عام ولها علاقة بالمنهجية وطريقة التعريف للحقيقة المطلقة مقابل الحقائق الموضوعية الدنيوية وتشتق من ذلك وسيلة لا تبدو خارج المألوف طبعا وتتفق مع أصول الفهم الديني لكنها لم تطبق بما يكفي لتوحيد الفهم الإسلامي على مر العصور.

لست مختصا بالفقه ولا ادعي إلماما كافيا بالتراث لأستطيع تفنيد أو تثبت كل أمر تفصيلي يتعلق بدعاوى الدكتور صبحي منصور “بخصوص كمال القرآن وعدم جدوى الاعتماد على ما يصطلح عليه بالسنة النبوية القولية أو الفعلية”.

لكن بالتحليل المنطقي يمكننا التوصل لبعض النتائج:

  1. مقولة الدكتور منصور الأساسية هي “أن القرآن كامل ولا يلزم غيرة للتشريع أو العقيدة وان القراءة القرآنية الواعية تكفي للوصول لكل ما يلزم”. وحتى هنا فالمقولة صحيحة ولا غبار عليها وهي اصل الدين ومرجعيته. فبدون الإيمان المطلق بصحة وكمال القرآن يفتح المجال واسعا للشك والظن وما يتبع ذلك من الشرك وتداخل التراث بالعقيدة.
  2. بإيراد أدلة كثيرة من القرآن الكريم يحاول الدكتور منصور إثبات أن الحديث النبوي أو ما يروى عن النبي(ص) من خارج الوحي يمثل تراثا لا يلزم تقديسه.
  3. لأجل ترسيخ الطعن وتبريره يتطرق الدكتور منصور بكثير من التفصيل والروتين لإثبات احتمالية الخلل في طرق جمع الأحاديث النبوية أو انفصالها الزمني ويورد أمثلة كثيرة على تناقض في أحاديث مروية بالصحاح للتدليل على صعوبة اعتماد هذه الكتب مراجع توازي القرآن الكريم أو لتكون مرجعية ثانية.
  4. بالتسلسل المنطقي لا يبدو في الموقف شططا حتى هذه النقطة. المشكلة تبدأ عند محاولة الدكتور منصور التعميم بعد ذلك وبإصرار غير مألوف من باحث علمي موضوعي على “عدم جدوى الحديث من أصله وان الحل يكفي بالقرآن”. وبنظره غير موضوعية يبدو كأنه ينكر على الرسول(ص) الحديث بمنطق سليم يدعم ويشرح ويفصل ما ورد من الوحي. وهنا يبدأ الشطط في رأيي.

الدكتور منصور نفسه عندما يحاول الوصول لبعض النتائج مستعينا بالقرآن الكريم فقط يحتاج بالتأكيد إلى إيراد الآيات ذات العلاقة وتفسيرها لغويا وتجميع المتناسب منها واستثناء ما يبدو مناقضا من خلال تفسير زمني أو لغوي يلغي التناقض الظاهري بحيث يصل إلى تسوية للموضوع ذي العلاقة وليعطي اجتهادا له معنى متصلا ومنسجما.

ما دام الشرح والتحليل ضروري للوصول إلى معظم الاستنتاجات أليس من الأولى لمن يستقبل الوحي القيام بهذا الجهد. هل يعقل أن يسمح للمجتهدين تفسير القرآن ولا يحق للرسول( ص) ذلك. طبعا هذا غير معقول.

طبعا سيجيب الدكتور منصور أن هذا ليس ما يقصد. ولا اعتقد انه يقصد رفض كل ما يقول النبي(ص) مبدأيا. هو يريد الفصل الصارم بين ما يفسره الرسول(ص) وبين ما يوحى إليه وليس في هذا مشكلة. لكنه بسبب اعتقاده بسلبيات الاعتماد على الحديث حسب التراث فهو يعتقد أن ضررها اكبر من نفعها مما يجعله منغلقا ضد كل ما يشير للحديث النبوي وفي هذا تجاوز للموضوعية.

مهما تم الانحراف عن سنة الله كما وردت في القرآن بسبب الاستعانة بأحاديث منسوبة زورا للنبي (ص) فهذا لا يلغي أحقية الرسول (ص) بتفسير القرآن وتوضيح معانيه ولا يمكن أن يلغي الأسوة الحسنة التي يتحلى بها الرسول (ص).

لا أريد الخوض طويلا بالطريقة التقليدية لإثبات تكليف الرسول (ص) بالوحي لكنه أيضا نبي يفقه القرآن الكريم أفضل من كل الناس ومن الطبيعي الاستعانة بما يقول أو يفعل لإدراك الأبعاد التفصيلية للدين بإجماله.

لا يستطيع أي تحليل منطقي قبول اجتهاد من يؤمن بالقرآن الكريم ويتحفظ على أقوال وتفسير الرسول(ص) لهذا القرآن. فهذا غير معقول وغير منطقي وبه معاداة غير عادلة لقيمة الرسول(ص) وحيا أو إنسانا.

طبعا من خلال تحليلات واجتهادات الدكتور منصور نراه يشط أحيانا بفتاوى غريبة تتناقض مع القرآن الكريم نفسه لأنه لا يلم في بعض الأحيان (بعمد أو غير عمد لا اعرف) بكل الحيثيات والآيات ذات العلاقة.

هناك أمثلة من القرآن الكريم تثبت عكس ما توصل إليه الدكتور منصور بخصوص الجزية والدعوة وزواج الكتابي وبعض الأمثلة الأخرى.

بنفس الوقت فان اجتهادات الدكتور منصور تكشف خللا أو ضعفا أو انحرافا في كثير من القضايا صعبة القبول في الدين. لأنها تتناقض مع أصول القرآن الكريم مثل بعض الأحاديث التي تتناقض مع ما ورد في القرآن أو بعض الروايات التي تدعي سقوط آيات قرآنية مثل آية الرجم أو غير ذلك. من السهل قبول تفسير الدكتور منصور لبعض التطور التاريخي الذي أدى إلى نمو بالتراث الديني لا ينطبق بالضرورة مع العقيدة الأصيلة.

ليس صعبا إدراك ذلك وإلا لما واجهتنا انقسامات الشيعة والسنة والمذاهب المختلفة.

ولكن كما يقول المثل: إذا نجح الاستنتاج والقياس في بعض الأحيان فربما يؤدي ذلك إلى العدمية في أحيان أخرى extrapolation may lead to absurdity) ) ونربأ بالدكتور منصور الوصول لتلك النهايات من خلال بعض التمادي بالاستنتاج والقياس.

نعم هناك بعض من الخلل في التراث وفي الفهم العام للدين الإسلامي والمذاهب المختلفة خير دليل. وتقديس الأحاديث النبوية دون فحصها أمام القرآن الكريم يعتبر نوعا من الشرك الباطن يسمح للتحريف والتزوير ومن الضروري إيقاف ذلك. لكن لتحقيق هذا الهدف الكبير لا بد من وضع أسس صلبة بمستوى المسئولية:

المسلمات الأساسية:

  1. القرآن الكريم مرجعية وافية لا ينقصها أصل أو فرع وأي طرح يضيف لما ورد في القرآن الكريم في الأصول أو يناقض ما ورد به لا يمكن قبوله مهما كانت المرجعيات.
  2. الرسول(ص) صادق ومخلص لرسالة الله المكلف بها ولا يمكن للرسول(ص) أن يفسر القرآن الكريم خطأ أو يضيف عليه تفسيرا غير ما كلفه الله به. ومن المستحيل أن يمارس بحياته ما يتناقض مع القرآن الكريم دون تصحيح إلهي لسلوكه أو وعي من طرفه لتصحيحه. بحيث يبقي ما يقول الرسول (ص) أو يفعل مرجعا يستحق الاعتماد والاعتبار كمرجعية تفصيلية وتفسيرية لما ورد في القرآن الكريم.
  3. لان من الثابت تاريخيا ادعاء الكثيرين على الرسول(ص) القول والفعل فان ما ينسب للرسول (ص) حديثا أو سلوكا لا يمكن اعتباره خارج الشك أو حتى الرفض بمجرد الادعاء انه منسوب للرسول(ص).
  4. بسبب ذلك فقد اجتهد الباحثون خلال القرنين الأولين لفرز الغث من السمين بمحاولات مشكورة وتستحق التقدير لتصنيف مستويات الحديث بطرق كانت موفقة بمستويات مختلفة بين عدد كبير منهم لتفاوت في المنهج البحثي أو لتزوير لاحق لنفس هذه الدراسات ربما. وعليه لا يمكن الجزم بصحة كل ما ورد بالتراث بصورة مطلقة واجبية القبول دون تحفظ وخاصة عند تناقض ذلك مع أصول القرآن الكريم.
  5. مهما ارتقى اجتهاد السابقين فمن حق اللاحقين بل من واجبهم الديني إعادة تقييم هذه الكتب والمراجع وتصنيفها بشكل يحقق درجات قبولها ليتم قبول ما يدعم أو لا يتناقض أو يضيف للقران الكريم وما ورد به.
  6. على هذا الأساس لا داعي لإعلان الحرب على التراث النبوي أو الاجتهادي وإنما علينا تمحيص ذلك دوريا بكل الجد والاجتهاد وتصنيف مستويات القبول بنظام أكثر شمولية من المدروس والمطبق تاريخيا.

أسس التقييم للتراث النبوي والاجتهادي:

  1. المرجعيات والرواة وتسلسلها تعتبر مرجعية أولية للفرز بمستوى الصفر. وفي هذا المستوى يتم رفض كل المطعون بتسلسله الروائي وقبول كل ما ورد بقوة وهذا يساوي الأسس القديمة والمعتمدة. وبهذا نبدأ من الأحاديث حسب قبولها التاريخي. يتم رفض كل ما هو مرفوض تاريخيا من مستوى موضوع واعتماد ما فوق حسن. وطبعا لا يهم كثيرا التشدد في الاستثناء لان هناك فحوصا أخرى سوف تلغي أي مقولات خاطئة متسربة من الفرز الأولي.
  2. يتم تقييم الأحاديث المقبولة من الفرز الأولي بمحتواها ومعناها وهذا هو الأهم: ويتم التصنيف بأربع مستويات:
    1. منسجمة مع القرآن الكريم ومفسرة لآياته.
    2. منسجمة مع القرآن الكريم وبإضافات في الفروع.
    3. منسجمة مع القرآن الكريم وبإضافات في الأصول.
    4. متناقضة مع القرآن الكريم.
  3. طبعا يتم رفض المستوى الرابع دون تردد. أما المستويات الثلاث الأولى فيتم قبول الأول منها دون تحفظ ويتم قبول الثاني مع الانتباه للإضافات واعتبارها ما يسمي “سنة نبوية” اصطلاحا. وتشجيع تطبيقها لأنها لا تؤدي لخلل في الفهم العام للدين بل تعمقه.
  4. يتم التحفظ على المستوى الثالث بشكل كبير ولا يجوز اعتبار أي منه ملزما بالعقيدة لكن دون ضرورة الرفض التكفيري لها وتبقي ضمن حالة التقييم التراثي.
  5. بهذا التصنيف يتم الوصول إلى تقييم جديد لكل ما ورد عن الرسول (ص) أو حتى عن الصحابة. ويتم فرز التراث بشكل يحفظ الأصول ويضمن التكامل مع القرآن الكريم. وفي هذا فمصدر التقييم الشامل هو القرآن الكريم فعلا.

بعد هذه العملية يمكن للمجتهدين والخبراء وضع التوصيات المناسبة بخصوص الفتاوى المطلوبة وذات العلاقة. ويستمر هذا التقييم مفتوحا في الزمان ولكن تطبق وسائل البحث الموضوعي عليها حسب الأصول. هل في هذا مشكلة للسيد منصور.

بهذه الطريقة طبعا سوف يكون هناك خلافات بين المذاهب المختلفة ورفض من المذاهب المحافظة القائمة وربما تؤدي لخلافات اكبر إذا لم تراعى فيها النزاهة والإخلاص في سبيل الله. لكن هذا موضوع آخر يحتاج إلى معالجة منفصلة. نكتفي هنا بالمبدأ العام.

اعتقد أن هذا المنهج يتسق مع أصول مذهب السنة المألوف مع انه سوف يؤدي إلى بعض الاختلاف في النتائج وهو بنفس الدرجة لن يرفض كمنهج من الشيعة أيضا ولكنه سيجلب بعض الاختلاف لاحقا. لكن المؤكد أن تطبيقه بأمانة سوف يقرب المذاهب نوعيا وبشكل لا يتطلب تنازلات سياسية مسبقة من تلك المذاهب أو أتباعها. وهذا جيد.

ربما يختلف هذا أيضا مع منهج من يعتبرون أنفسهم قرآنيين مثل الدكتور منصور حسب المألوف منهم لأنهم ربما يرفضون البدء أصلا بقبول أحاديث الرسول الكريم وهذا خطأ. فإن أهملنا كل ما قال الرسول (ص) خارج النص القرآني فسوف نحتاج للكثير من التفسير من قبلنا وسوف نرتكب حماقات مؤكدة تحتاج مرة أخرى إلى أبحاث لاحقة تكشف الخلل بها.

أما هنا فنحن لا نرمي بتراثنا الجيد بسبب اختلاطه بغير ذلك. بل نعمق مستوى البحث ونوسع مجال الاجتهاد دون التخلي عن الأصل وهو القرآن الكريم وحقيقة صدق الرسول الكريم.

إذا كان ما نشرح ينطبق على فهم القرآنيين فهذا زيادة في الخير ونكون عند ذلك متوافقين.