الموقف من الفتنة الكبرى

January 14, 2025 Off By Salman Salman

 

د. سلمان محمد سلمان – أستاذ الفيزياء النووية والطاقة العالية – قلقيلية – فلسطين

لقد تطرق لهذا الموضوع كثير من المفكرين والمؤرخين ولم يصل أحد إلى تسوية تحل الإشكال الكبير بين السنة والشيعة. ولا أعتقد أن هذه الدراسة سوف تحل الموضوع، لكنها ربما تساعد في فهم موضوعي ربما يعيد التفكير لتمييز الأصول من الفروع لأسباب موضوعية وحب الحقيقة، أو على الأقل لأسباب براغماتية تتعلق باستحالة تصفية فكر الآخر. في تقديري تقع الحقيقة في مكان ما بين رأي الطرفين.

أود تأكيد حفظ صفات التبجيل المألوفة ( للرسول ص وللصحابة رضي الله عنهم أو علي عليه السلام أو كرم الله وجهه) لكنني لم استخدمها مرافقة لأسمائهم لكثرة التكرار المربك للمتابعة.

تصنيف وتعريف بالمواقف

ليس ضروريا بل ربما ليس مفيدا أن تكون سنيا أو شيعيا حتى تتعامل بموضوعية مع الحدث. ومن حاكم الموضوع في العرف التاريخي كان واحدا من أربع فئات:

الفئة الأولى مؤيدون لعلي وضد بني أمية: ويرغبون إثبات وجهة نظره. وتتفاوت مواقف هؤلاء من معتدلة لا تدين الآخرين جملة، لكنها تؤكد على أحقية علي بالحكم، لتصبح لاحقا مواقف دينية مفصلية ترتبط بالإيمان والعقيدة. وتطور الأمر ليصبح مذهبا صعب التسوية في بعض الأمور المتعلقة، مثل الأمامية وعصمة وولاية الفقيه، إلى مواقف هامشية أكثر تطرفا خرجت عن الإسلام أحيانا.

الفئة الثانية مؤيدون لبني أمية دون معارضة بالضرورة لعلي: ويريدون إثبات استحالة صلاحية علي للحكم، بغض النظر عن كونه جيدا أو غير ذلك. وهذا الموقف أموي بالأساس ويرغب تبرير كل تجاوزاتهم. وبسبب صعوبة تجريم علي وأسباط الرسول تراوح الموقف من العداوة الضمنية إلى الحيادية من علي، وأحيانا تكريمه نظريا دون دعم لموقفه فعليا. لكن بأفضل الأوضاع لم يعط علي أي تفضيل على الأمويين. وهذا الموقف أقرب للموقف السني العام.

وسبب ثبات هذا الموقف للسنة أن عهد بني أمية والعباسيين معا شهدا محاولة نزع شرعية علي وأهله، وهذا يعني أن معظم عمر الدولة الإسلامية كان محكوما بهذا الرأي رغم قرابة علي للرسول.

موقف السنة عموما يكرم عليا وأهلة، لكنه أيضا يؤيد الأمويين والعباسيين في نفس الوقت. يبدو هذا الموقف شاذا وهو كذلك بمعايير الموقف الشخصي والفردي أو الموضوعي، لكنه يعبر بدقة عن كيفية استيعاب المجتمع لمجمل المواقف. لا يحمل موقف السنة من علي بعدا عقائديا، وهو موقف متوسط يحمل الصفة السياسية للمراحل التاريخية ولا يجوز فهمه بأكثر من ذلك.

الفئة الثالثة يتبنون موقفا موضوعيا دون اتخاذ مواقف مسبقة: وينطلقون من مواقف إسلامية أصلا، فهم يعتبرون الإسلام دينا صحيحا، وأن محمدا رسول الله والقران مرجعية الإسلام، ويتعاملون بوعي مع الصراع بين بني أمية وعلي كصراع سياسي ليس أكثر، ويحاولون محاكمة المرحلة من هذا المنظور.

أتباع هذا الموقف ربما يمثلون أقلية بسبب صعوبته السياسية، وعدم توفر حماية مذهبية، واحتمالية اكتساب عداوة مزدوجة. لكن قيمته تنبع من كونه الأقرب للتحليل الواقعي والعلمي، وهو أكثر احتمالا للحقيقة مقارنة مع الموقفين السابقين. بل ربما هو الأكثر حرصا على التمييز بين المعتقد الديني والخلافات السياسية والمذهبية، التي تطورت الى تراث ديني يتعامل كل طرف معه حسب ما يخدم توجهاته.

الفئة الرابعة مجموعات متعددة تحمل تقييمات متفاوتة الموضوعية من جهات من خارج الإسلام: ورغم تعدد هذه المواقف وتشتتها نضعها هنا ضمن “موقف غير ما سبق”، لغرض الاستثناء لكونها خارج الاعتقاد الديني. ومع أنها تحتمل أحيانا درجات عالية من الموضوعية، إلا أنها أيضا تحتمل التناقض والمحاربة المباشرة وربما تكون الأكثر تطرفا. لا نريد الخوض في تفاصيل هذه الفئة التي تختلف بينها بأمور كثيرة، لكنها تتفق في عدم اعتبارها الإسلام مرجعا إيمانيا، مما يفتح لها تفسيرات تختلف عما يقبله المسلم طبعا. سنأخذ بالخيار الثالث لأنه الأقرب لإعطاء حكم موضوعي ضمن المعتقد الإسلامي.

مسلمات الدراسة والتقييم

  1. القران والرسول مرجعية الإسلام الأولى والأخيرة: حيث من الضروري صدق كل ما في القران وأن لا يتناقض موقف الرسول معه وماعدا هذا نقع في انحرافات فكرية أساسية. هذا طبعا يقبله الجميع كنقطة بداية، لأن من غير الممكن لشخص مؤمن تكذيب ما بالقران، أو قبول نسبة حديث للرسول يناقض القران. لكن هذا التوجه سيثمر نتائج لن تعجب الأطراف، لأن كثيرا من الأحاديث المقدسة من أي من الطرفين تصبح بموقع شك كبير إذا تم اختبارها بمقياس القران. هذا لا ينقص اعتبار الرسول مرجعية طبعا، فهناك فرق جوهري بين ما ينسب للرسول وما قاله حقا. ينجم عن هذه المقولة توجه للتوفيق بين القران والأحاديث يقوم على قواعد تضمن تقييم الأحاديث بناء على المتن والمحتوى وليس السند.
  2. ينتج عن المقولة الأولى (القرآن والثابت عن الرسول أساس الدين) اعتبار ما غير ذلك من التراث، يسمح بقبوله أو رفضه بالمنطق العلمي المجرد، ولا يحق لأحد اعتباره جزءا من العقيدة يكفر من يرفضه. هذا الموقف يحل أكثر من 90% من المشاكل لأن رفض التناقض بين القران والحديث، يفرض الشك بأية أحاديث أو تفسيرات للقران تصنع تناقضا داخليا للقران، أو تناقضا مع الثابت عن الرسول. ويصبح تراتب الأولوية 1- للصريح من القران 2- توافق المتشابه من القران مع الصريح بما يضمن الانسجام الشامل للقران 3- اتفاق الحديث مع مجمل القران ورفض النسخ كوسيلة لتبرير التناقض أو الإضافة. ومع أن هذا يبدو تكرارا إلا أنه غير ذلك.
  3. وحيث توفي الرسول قبل الفتنة بسنوات، فلا يمكن اعتبار أي تحليلات أو استنتاجات أو توجهات انطلقت من مواقع الفتنة جزءا من العقيدة، ونقتصر الإيمان والإسلام بما كان سائدا زمن الرسول وموافقته. ما نقصده هنا رفض اعتماد أية أحاديث أو تفسيرات للقران لخدمة مواقف الإطراف السياسية المتناحرة كمعطيات تمثل جزءا من العقيدة، لأن هناك شبهة توجيهيها لخدمة قضايا خلافية لاحقة حتى لو توفر بها شرط عدم التناقض مع القران.

ربما يحتج الشيعة أن حادثة الغدير والبيعة جزء من الدين وسيقاتلون لإثبات قدسية وعصمة الأئمة وولايتهم، لكن هذا غير موجود في أصول القران أو الحديث بشكل يضمن الانسجام التام. بنفس المقياس نتوقع لمثل هذه الدراسة الكشف بسهولة أن الكثير من الأحاديث التي تمجد بني أمية موجهة لخدمة موقف سياسي لاحق، ونفس الأمر ينطبق على العباسيين والشيعة. طبعا هنا نقفز للنتائج مع أن إثباتها يحتاج الى تطبيق المقولات أعلاه على الحديث وفرزه وتصنيفه بمعيار حيادي.

عندما تحدد الأحاديث السنية والشيعية والتفسيرات القرآنية التي تعتبر تراثا أكثر منها عقيدة، يحق حينئذ للناس الأخذ بها أو رفضها دون فقدان الحق بكونهم مسلمين، وتتبلور مجموعة المفاهيم التي تمثل كتلة الإسلام الحرجة وأركانه التي لا يختلف عليها المسلمون جميعا، فمن اتبعها فهو مسلم ومن عارضها فهو خارج الإسلام، وما عدا ذلك لا يحق لأحد التقرير به.

الواقع الفعلي للمسلمين قريب من ذلك في العلن، فليس سهلا على السنة تكفير الشيعة رسميا، وبهذا فهم يعترفون أن رفضهم لما يختلفون به مع الشيعة لا يمثل أساسا للإسلام. نفس الأمر ينطبق على ما يرفض الشيعة من مفاهيم السنة. فرفض السنة لمفاهيم الإمامة وولاية الفقيه التي تعتبر جزءا من عقيدة الشيعة لا يخرج السنة من الإسلام حسب رأي الشيعة المعلن، كما أن الإيمان بها لا يخرج الشيعة من الإسلام حسب رأي السنة المعلن.

لكن عميقا في معتقدات الطرفين هناك من يؤمن بكفر المخالفين، وهذه مشكلة كبرى يجب حلها، ولن يتم ذلك إلا بانسجام المعلن مع الباطني، والتحديد الصريح أين تقع الحدود الحمراء. بغير ذلك لن يتفق المسلمون، وسيزدادون ابتعادا عن بعض مع الزمن.

نهتم بهذا الأمر لأنه أساس المشاكل التي تواجه المسلمين اليوم، ولارتباطه العميق مع الفتنة الكبرى. من الضروري تحديد مجموعة مفاهيم ومعايير تقيم تلك الفتنة بشكل يحترم العقل، ولا يحتوي التناقض وينسجم مع أسس الإسلام.

أسئلة مفصلية

إذا درسنا الفتنة نجدها تتمركز حول قضايا تتعلق بالحكم والعدالة، وتعكس في بعض الأحيان تناقضات ذات أساس قبلي وقومي أو عرقي. وتبرز بعض الأسئلة:

السؤال الأول: ما دامت مسألة الحكم حساسة فهل تم البت بها بوضوح في القران، ولماذا نحتاج إلى تفاسير معقدة لتوضيح ذلك. بالنسبة للشيعة فالمسألة محسومة، وحسب السنة فهي كذلك لكن بشكل آخر. وهذا يعني أن مسألة الحكم والولاية ليست محسومة إسلاميا. هل يمكن أن نجد حلا وحيدا لذلك.

السؤال الآخر: هل يسمح القران بالتفاوت الطبقي الشديد، والغنى الفاحش، والتمييز العرقي، وتشجيع الرق والعبودية والجواري.

الجميع طبعا سيجيب بلا كبيرة وبسرعة، لكن ممارسات التاريخ تقول بغير ذلك. في هذا يتنافس الشيعة والسنة في الادعاء النظري بحفظ العدالة، لكنهم لا يستطيعون نفي الكثير مما في التراث من تناقض حاد مع ذلك. هذه القضية تحتاج الى حسم وتحديد لأنه بدون ذلك لن نصل الى حل.

السؤال الثالث: هل هناك من ضمن الإسلام آلية تمنع وتكشف التزوير، وإن كان ذلك فهل طبقت دوريا للتنقية، وان لم يكن فمن عطل ذلك. حسب تقديري لم تطرح إجابة شافية لهذا السؤال.

الإجابة الشافية على الأسئلة أعلاه تحل الكثير من المشاكل. ولو أخذنا بمقولة مرجعية القران والثابت من الحديث، سيوفر ذلك لنا حلا مقنعا. لكن حدة الفتنة الكبرى تعمي أبصارنا وتمنعنا من مواجهة عيوبنا، لأننا جزء من تكتلات ونخاف الخروج عنها لئلا نصبح صعاليك. الحقيقة أنه دون التحرر من تلك التكتلات فكريا على الأقل لن نصل أبدا.

محاولتنا هنا تفسير ومحاكمة الفتنة بموضوعية ربما تساعد على تمييز الغث من السمين في معتقداتنا التاريخية، وربما تجعلنا أكثر قبولا لتطبيق معايير التنقية الدورية للإسلام بما يضمن دوره العالمي الشامل والمنفتح، والذي يعمل على استيعاب الجميع، ويعطيهم نفس الفرص ليكونوا مسلمين وإلا أصبحنا أعداءا للإسلام باسم الذود عنه.

هل اعتبر نفسي من خارج السنة أو الشيعة: لا ولكن اعتبر نفسي فقط مسلما على سنة الله ورسوله قبل الفتنة، وأرفض فكر الفتنة وتراثها، وأريد تحرير نفسي وكل المسلمين من تبعات ذلك. طبعا يبدو الطرح حلما بعيد المنال، لكن المحاولة ربما تساعد قليلا على العمل بالاتجاه الصحيح، وقليل موجب أفضل من لا شيء أو سالب. هل يعني ذلك طرح مذهب جديد. طبعا لا، ولا أدعي ولا تشرفني المساهمة في طرح طريقة ربما تضيف تناقضا جديدا. كل الأمل أن نزيح العيوب وما يحجب الرؤيا، لنستطيع جميعا تحرير أنفسنا، وسنجد في إسلام ما قبل الفتنة ما يكفي لضمان الاستمرار الصحيح.

محاكمة الفتنة الكبرى فكريا وسياسيا

المشاكل والانهيارات: تداخل المفاهيم الأساسية مع المصالح السياسية والطبقية

حسب رأي الشيعة فإن عليا مكلف الولاية، وحسب السنة تم اختيار الخليفة الأول بشكل يعبر عن المصلحة العامة. لكن هل تعامل الطرفان مع هذه المسائل أنها لا تخرج عن كونها اجتهادات بشرية تحتمل الخطأ والصواب. طبعا لم يحصل ذلك.

لماذا لم تتم التوصية بحق الولاية بنفس طريقة وراثة النبوة بين أبناء إبراهيم. هل القاعدة وراثة الحكم، أم أن وراثة النبوة كانت الاستثناء الذي ثبت حسب القران عدم صلاحيته إذا تم التوسع به.

حسب القران فإن تجربة بني إسرائيل رسالة واضحة بعدم جدوى التوريث. وحسب قابيل وابن نوح أيضا يثبت أن الطيب يولد الخبيث، وحسب إبراهيم أن العكس صحيح، مما يعني عدم جدوى الاعتماد على الوراثة بشكل عام. حالة بني إسرائيل تثبت تحديدا أن وراثة الولاية لا تصب في مصلحة نظام الحكم.

طريق الشورى هي الحل حسب المنصوص عليه صريحا (وأمرهم شورى بينهم). وما دام الأمر كذلك فليس هناك دافع ليقوم الرسول قبل وفاته بتحديد من يكون خليفته. فلو أعطى الولاية لأي فرد سيفهم من ذلك حق الوالي تحديد خليفته، وهذا يتعارض مع مبدأ الشورى، وسابقة تلجم تطبيقها مبكرا.

بالمقابل يبدو أن ترك الأمور على سابلها دون طرح بدائل، خلق مشكلة وخاصة بعد تجربة الفتنة الكبرى. في رأيي لم يكن هناك خطأ في الفهم الديني، وإنما هو من عزم الأمور وجزء من سلوك البشر وضرورات تطور الأشياء، ولا يتم علاجه إلا بالمراجعة الدائمة والمحاكمة العادلة.

وحسب رأيي فان اعتماد أساس الدين لما قبل الشورى، ومحاكمة ما أدنى من ذلك بمعيار الشورى، يمثل أقل الحلول خسارة وأفضلها احتمالا للنجاح، مع أن ذلك لا يلغي بقاء بعض التداخل السلبي كنتيجة طبيعية لسلوك البشر وفهمهم.

في عهد أبي بكر وعمر تم الاختيار بناء على توازن القوى، ويبدو أن أبا بكر وعمر كانا يملكان من الثقة وعوامل القوة ما أهلهما للترشح والبيعة.

اختيار عثمان تم ضمن ستة خيارات كانت مختلطة التوفيق. فمن اختارهم عمر كانوا من أجل الصحابة، لكن حصر اختيارهم كان اجتهادا من عمر، ولم يكن ملزما للمسلمين. حصول عثمان على التزكية يعكس واقعا اجتماعيا واقتصاديا، وتوازن قوى كان أميل للأغنياء وبني أمية، ولا يمثل انحرافا عقائديا.

تزايد فساد الدولة وهيمنة بني أمية في عهد عثمان مسائل لا يمكن التهرب منها: ولا بد من الاعتراف أنها مثلت أهم الأسباب لبروز الفتنة، مع أن هذا لا يحاكم عثمانا كشخص بمقدار محاكمته كنظام.

إدارة علي للازمة كانت مقيدة من كثيرين: وانعكست خلافات الأمم المكونة للدولة الإسلامية على توازن القوى، مما سمح لبني أمية كسب المزيد من التحالفات، مقابل علي الذي كان يريد الالتزام بالعقيدة ومحتواها وعدالتها، وخسر بسبب ذلك الكثيرين من أصحاب المصالح. لقد مثل انقلاب بني أمية ثورة على المفاهيم المتعلقة بالشورى، والاقتصاد وتوزيع الثروة، فوق الانقلاب على تساوي الأجناس البشرية وتأطير التمييز العنصري، وهذه مشاكل البشرية كل عصر.

فساد شرعية الحكم الأموي أدى إلى سقوطه. لكن الدولة العباسية قامت على مقولة حق وراثة الرسول على حساب علي، ولم تعمل على تفعيل مبدأ الشورى. هذا يعني أن الثورة العباسية كانت سياسية بامتياز، ولم تعكس أي محاولة لتصحيح الخلل في تطبيق الفكر الديني.

نفس الأمر تكرر في محاولات شيعة علي الحصول على الحكم ( الفاطميون ومن بعد ذلك)، فهم طعنوا في أسس شرعية الحكام الآخرين، لكنهم لم يتبنوا مقولة الشورى كأساس لشرعية اختيار الحاكم. وبشكل عام فقد تم اختزال البيعة بطقس أكثر من أداء فعلي لآلية تفرز حاكما يمتلك شرعية معقولة. وهذا يعني أن الخلل الذي حصل وسبب الفتنة الكبرى تجذر على مدى التاريخ الإسلامي بالتخلي عن مبدأ الشورى، ورسخ فساد الحكم منذ البدايات.

ولأن ثورة بني أمية مثلت تحويرا في النظرة لحقوق الفقراء، وفتحت المجال لسيطرة غير مقيدة للأغنياء، فقد استمر ذلك بعهود من بعدهم وأدى الى مأسسة الخلل في العدالة الاجتماعية والاقتصادية. وهذه أهم القضايا التي عانت وتعاني منها الدول الإسلامية بشكل ممنهج. لم تتميز حكومات المسلمين كثيرا عن غيرها من الأمم في هذين البندين، بل ربما مارست مساوئ أكثر من غيرها بسبب شرعنتها بأسس دينية كاذبة، اعتمدت الأحاديث المزورة أو سوء تفسير القران.

أهم حيثيات القضية

هناك سردان تاريخيان لتطور الأحداث منذ وفاة الرسول وحتى انتصار بني أمية ومقتل علي. في التالي نضع الأكثر احتمالا للحقيقة، مع تمييز موقف الطرفين في قضايا الخلاف لكل مرحلة.

من وجهة نظر الشيعة: طلب الرسول بيعة علي وحصل عليها بناء على أمر الهي مباشر في اجتماع الغدير. وشاركت أعداد كبيرة نسبيا من أهل المدينة والصحابة في البيعة أمام الرسول ومنهم عمر وأبا بكر، وأن هذا حصل قبل وفاة الرسول بفترة قصيرة نسبيا، وأن أبا بكر وعمر تجاوزا هذه البيعة واقتصراها بينهما، وحصلا على بيعة أبي بكر في السقيفة ومن ثم عمر بعد ذلك. لم يحصل تمرد من غالبية من بايع في الغدير رغم كثرة عددهم وقصر الفترة الزمنية بين الحدثين.

لا تبدو رواية الشيعة واقعية، فلو حصلت البيعة قبل أقل من سنة وبأعداد كبيرة من المسلمين بمن فيهم عمر وأبي بكر لما كان ممكنا لهما أقناع من بايع تغيير موقفهم، واستحال عليهما تجنيد الأنصار خلال حروب الردة. وعليه يميل التحليل أن بيعة الغدير لم تتم وهذا طبعا يضع تعارضا مع أساس عقائدي للشيعة. ربما هذا يرضي السنة، لكنه في الحقيقة لا يمثل نقطة لصالحهم أيضا.

من رواية التاريخ نجد ابتعادا ملحوظا لعلي عن مركز القرار لا يتناسب مع قيمته ووضعه، وهذا يؤشر إلى أن عليا لم يتفاعل مع هذين الخليفتين واعتزل السياسة احتجاجا. ربما يعني هذا عدم سعادته بالأداء، ولكنه أيضا يحتمل اعتبار نفسه الأحق بالولاية وهذا الأرجح.

الأقرب للواقع أن عليا لم يكن راضيا بتطور الأمور باعتبار أنه الأولي بالخلافة، لكنه قبل البيعة لهما عندما وجد غالبية من الصحابة تؤيدهم. وقد بقي بعيدا نسبيا عن مركز القرار رغم محاولة أبي بكر وعمر توفير ذلك وتقريبه، وهذا مفهوم من نواحي إنسانية وسياسية.

لم يعلن علي حربا ضد عمر أو أبي بكر، مما يرجح بقاء تحفظه شخصيا ولم يتحول لحركة سياسية معارضة. وهذا يتناسب مع فرضية أن فوز أبي بكر ومن ثم عمر بالخلافة مثلت رأيا عاما قويا نابعا من صداقة وقرب سن أبي بكر من الرسول مقارنة بصغر سن على. بالنسبة لعمر فقد سهل سنه وقربة الكبير من أبي بكر ودوره خلال حروب الردة في قبول انتخابه بعد أبي بكر. ورغم أن عثمان كان أكبر من عمر إلا أن شخصية عمر كانت أكثر حضورا.

بعد فتح بلاد العراق وسقوط الدولة الساسانية، اغتيل عمر لسبب سياسي بحت. من المفهوم أن يحاول شخص فارسي هزمت دولته الانتقام من قيادة الجهة التي هزمته، وعليه فاغتيال عمر لا يحمل أي مفهوم ديني له علاقة بالشيعة، وأي توقير لقاتل عمر يعتبر إسفافا من ناحية إسلامية.

خير عمر قبل وفاته نخبة المسلمين بين ستة هم علي وعثمان وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام، واعتبر ابنه عمر حكما مرجحا. انتخبت المجموعة عثمان وليس ذلك مستغرب بحكم تركيبتها أميل لبني أمية، فوق أن سن عثمان فضله مقارنة بصغر سن على. علينا أن نتذكر قيمة السن في الثقافة القبلية تحديدا.

الملاحظة المهمة هنا هي قبول علي الانتخاب ضمن هذه المجموعة، وهذا يعني قبوله نتائجها وأنه ربما لم يكن منسحبا تماما، لكن معارضته لم تكن مانعة وشامله، مما يؤكد تحليلنا السابق.

تفاعل علي مع الحكم بعد انتخاب عثمان بشكل أكبر، واظهر نقدا لكثير من قراراته ووسائل حكمه. ظهر ذلك بمعارضة واضحة بخصوص تنفذ الولاة من بني أمية، والتحكم بأمور الناس بشكل بعيد عن روح الإسلام الذي يقف مع المستضعفين. نمت طبقة متنفذة إقصائية مهدت لتكون محور قوي داخل النظام. لا يختلف السنة والشيعة في الاعتراف بأن عهد عثمان شهد نفوذا كبيرا لبني أمية.

بعد الثورة على عثمان التي سببها ظلم الولاة وتحديدا عبدالله ابن أبي السرح في مصر، حاول علي اختصار الأمر وتجاوز الفتنة لكنه لم يستطع، وانتهت الثورة بمقتل عثمان بالمسجد مما خلق حالة استنكار واسعة بين المسلمين بغض النظر عن موقفهم من عثمان وسياسته، وخاصة أنه رجل مسن.

لا يختلف الطرفان كثيرا في سرد حوادث هذه المرحلة، مع أن كثيرين يختلفون في خلفياتها. فبينما يعتبر السنة عهد عثمان عادلا وأن الفتنة كانت بسبب مؤامرات أعداء الإسلام واليهود، ولم تحمل في طياتها ثورة على الظلم، يعتبرها الشيعة تعبيرا عن رفض بني أمية وحكمهم، وخاصة أن عليا كان يجاهر بمعارضة الكثير من قرارات عثمان. هذه تحتاج إلى وقفة:

مجاهرة علي بمعارضة سياسات عثمان كانت حدثا معروفا ومألوفا، بل إن عائشة أيضا كانت تعترض على الكثير من سياساته، وهذا يعني أن الخلاف مع عثمان لم يكن شخصيا من قبل علي. وعندما نقارن ذلك مع مرحلة عمر وأبي بكر وخفوت معارضة علي مقارنة بوضوحها ضد عثمان، نفهم أن عهد عثمان شهد فعلا تحولات مستنكرة من قبل الكثيرين بمن فيهم أبناء أبي بكر. من المرجح إذن أن بني أمية حاولوا فعلا التحكم بمصير الدولة، ولا يكفي القول أن تآمر مثيري الفتنة كان سبب الثورة.

هذا لا يجعل عثمان متهما أو متآمرا. بالأرجح أنه كان ضعيف الحيلة والقرار بسبب كبر سنه، فعندما استلم الحكم كان عمره سبعين عاما، ومن السهل فهم ضعف قدرته على الحكم بهذه السن. تحمل الثورة ضد عثمان في طياتها رفضا سياسيا لبني أمية رغم عدم إدانته شخصيا. طبعا هذا لا يلغي دورا إضافيا في تأجيج الفتنة من قبل قوى معادية، فعندما تبدأ الفتنة والصراع نتوقع من المعارضين عدم الوقوف متفرجين، لكنهم لم يكونوا مؤسسين لتلك الثورة.

موقف علي عند هذه النقطة كان الأعلى أخلاقيا من الجميع. فهو كان معلنا لمعارضته لسوء الإدارة في عهد عثمان، وهو من المرشحين السابقين للولاية، وهو شاب قوي وابن عم الرسول وعثرته. كل هذه الأسباب ترجح استعداد قطاع كبير من المسلمين دعمه في هذه المرحلة الحرجة، وهذا يفسر لجوء المتمردين لمبايعته لأنه لم يكن هناك مرشح أفضل منه. المرجح أن عليا لم يكن مشاركا في الثورة، وإنما فقط كونه رجل حق ومعارض سياسي يمثل بديلا حقيقيا.

لكن عائشة وأخوها كانا معارضين لعثمان أيضا، وهذا يتطلب فهما دقيقا لماذا اختلفت مع علي لاحقا رغم أنه عين أخاها واليا لمصر.

عرض المسلمون البيعة على علي رغم الفتنة، وكان صعبا عليه قبولها لأنها تحمل شبهة الاتهام بتعاونه مع المتمردين الذين عاثوا في المدينة. لكنه لم ير بدا من القبول رغم الاتهام المحتمل، لأن الرفض يعني التفكك العام للدولة، وقد حصل على بيعة غالبية المسلمين، وفي هذا لا يختلف السنة عن الشيعة.

تباطأ بنو أمية في البيعة وعزل علي ولاة عثمان كحل نابع من قناعته، ولامتصاص النقمة الشعبية، فاستغل بنو أمية ذلك لإعلان التمرد، وأعلن معاوية والي الشام ذلك، مما صنع انقساما مبكرا في جغرافيا الدولة.

حسب الشيعة اتخذت عائشة موقفا معاديا لعلي، واتهمته بالتحيز للثوار، وأعلنت حربها عليه، وانتهى صراعها معه بمعركة الجمل التي هزمت بها، واعتزلت بعد ذلك. وحسب السنة لم تتخذ عائشة موقفا معاديا من علي، وإنما اختلفت معه في تصورها لمعالجة ما بعد الأزمة، وأن تطور الأمور لمعركة يمثل حالة نموذجية لقدرة الثوار ومثيري الفتنة على توجيه الأمور.

وما هو مؤكد دون خلاف أن عائشة اختلفت مع علي وحصلت معركة الجمل، فكيف يمكن فهم هذا الموقف. يفسر الشيعة الأمر بعداوات سابقة ويربطونه بحادث الإفك، وانها تعتبر عدوة لا مجال لتبرئتها من تهمة التحيز المسبق، وهذا ينسجم مع مقولة استهداف علي من قبل الشيخين، أصلا فلا جديد إذن. لكن حسب تحليلنا أعلاه واستبعاد الاستهداف المسبق لعلي، لا أرى مبررا لتبني مقولة العداوة المسبقة. وإذا أخذنا بالاعتبار معارضة عائشة ومحمد بن أبي بكر لعثمان من الأسهل فهم الأمر كالتالي:

عارضت عائشة سياسة عثمان، لكنها رفضت مبدأ قتله طبعا، وفي هذا فهي ليست وحيدة وتلتقي مع علي تماما. المشكلة بدأت عند معالجة علي لما بعد الحدث، فهو اختار أولوية طرد الولاه الأمويين، لضمان امتصاص نقمة الجمهور الثائر من جهة، ولضمان حكم مستقر في أطراف الدولة وتحسين وتعديل السياسات التي كان يعترض هو عليها بسبب هؤلاء الولاة، وبهذا فعزل الولاة بداية ينسجم مع مواقفه الاستراتيجية السابقة. لكن رأي عائشة كان مع أولوية اعتقال القتلة وعقابهم وأنه بهذا فقط يمكن ضمان الاستقرار. تمحورت المسألة على اجتهادات تتعلق بترتيب الخيارات والقرارات المطلوبة لما بعد جريمة القتل.

الحقيقة أن كلا الموقفين يحملان مبررات موضوعية: فإذا كان رأي علي بعزل الولاة قبل عقاب القتلة هو الأفضل لمصلحة الدولة العامة، إلا انه يحمل بطياته شبهة التساهل مع القتلة والتغاضي عن جريمة قتل الحاكم وهي جريمة كبرى، بل ربما يحمل ويسهل إمكانية تبني أهل الدم شبهة اتهامه بالتآمر أو تعطيل العدالة، وهذا ما حصل فعلا من قبل الأمويين.

بالمقابل فان التشدد في اعتقال وعقاب المتمردين والقتلة دون إصلاح الوضع في الولايات، والذي كان السبب الحقيقي للثورة، سيفهم منه ملاحقة الثورة وإحباطها واعتبار علي متحيزا مع الولاه. ومع الأخذ بالاعتبار ظروف المدينة وسيطرة الثوار على مفاصلها، لم يكن سهلا على علي التسرع في اتخاذ القرار الحاسم، وكان الحل الذي تبناه منطقيا وواقعيا. فقد طرح عزل الولاة كإصلاح سياسي، وفي نفس الوقت أعلن براءته من قتلة عثمان ورفع الغطاء عنهم، ولم يكن سهلا توفير بديل لهذا الحل الوسطي على المدى الزمني القريب. إصرار عائشة على عقاب القتلة مبرر أيضا لاعتقادها استحالة نجاح الإصلاحات، بينما الدم والعدل غير مصان وأن التساهل يؤدي الى المزيد من الفتن.

وعليه يمكن القول أن موقفي الطرفين لا يخرجان عن اختلافات في فهم الأوليات. طبعا بما أن الخليفة كان عليا فليس من حق عائشة التدخل بالحكم، لكن هذا لا ينقص من وزن رأيها الذي ثبت لاحقا صدقه، حين تبني الأمويون قضية عثمان كاملة لتصفية حق علي بالولاية رغم بيعته.

كيف تطورت الأمور لمعركة الجمل: حسب معظم الروايات فقد أثيرت المعركة من قبل المتمردين بعد اتفاق الطرفين على إعلان علي براءته من المتمردين، وإعلان عائشة دعمها لموقفه السياسي بعزل الولاة. من المفهوم في مثل هذا اللحظة الفاصلة أن يعمل المتضررون على تفجير الموقف.

من كل هذا أرى أن سبب الخلاف بين على وعائشة ناجم عن اختلاف في تقييم المرحلة الحساسة وسهولة الانجراف للصدام ضمن حالة الثورة المسيطرة على الشارع.

عند هذه النقطة انسحبت عائشة وانقسم موقف معظم أهل قريش والصحابة لثلاث مواقف: مجموعة اعتبرت عليا هو الشرعي وضرورة دعمه وبهذا توفرت نسبة من الصحابة. المجموعة الأخرى كانت مؤيدي بني أمية الذين تبنوا التمرد ضد علي على المكشوف ويمثلون نسبة أقل من قريش. والمجموعة الثالثة شملت من لم يستطع اتخاذ موقف مع طرف لتعقيدات الظرف أو لصعوبة التأثير عليه ومعظم هؤلاء بقوا في المدينة ومكة.

تمركز مؤيدو بني أمية في الشام ومالت مصر لصالحهم، وتم قتل والي مصر محمد بن أبي بكر سريعا. بالنسبة لعلي فقد بسط السيطرة على العراق وشرقها لكن دون فوائد كثيرة. فشرق العراق أعاجم لم يكن سهلا الاعتماد عليهم في هذه المرحلة المبكرة للوقوف معه بينما كان دور مصر والشام أكثر فعالية بسبب غنى البلدين وعدد السكان وتماثل المجتمعين وعدم انقسامهما بعكس العراق التي كانت مقسمة بسبب تجذر نفوذ الفرس، فاستعمار العراق كان استيطانيا والمدائن كانت بالعراق. بينما كان مركز حكم الروم في القسطنطينية وتأثيرهم في مجتمعات مصر والشام أقل.

الصراع بين علي والأمويين جغرافيا أخذ خطوط الصراع الفارسي الروماني وهذا ليس صدفة. نجح معاوية أخيرا في التحكم بالملك لعدة أسباب أهمها سعة الإقليم الذي يسيطر عليه، وكثرة عدد العرب الموالين بينما اقتصر دعم علي في العراق المنقسمة واليمن المنقسمة أيضا مما جعل حكم علي أكثر صعوبة. فوق هذا كان علي قليل المناورة لمحاولته التزام تعليمات العقيدة، بينما الطرف الآخر لم تكن تردعه مثل هذه القيود على الأقل بنفس الدرجة.

استمرت الفتنة والتمرد الأموي وانقسمت الدولة سياسيا وتميز موقف أهل الشام بالدعم الفعلي لمعاوية بينما تذبذب موقف أهل العراق بين الدعم والخذلان. استمر الصراع حتى موقعة صفين التي انتصر فيها علي، فطلب الأمويون الصلح والتحكيم. واستطاع عمرو بن العاص خداع ممثل علي أبي موسى الأشعري حين عزل موسي عليا ومعاوية بينما ثبت عمرو معاوية وأقر عزل علي مما أدى الى سقوط التحكيم ورفضه.

تفاقمت الأمور حين ظهرت مجموعة متطرفة من أتباع علي اتهمته بالتنازل، واعتبرته فاقد الشرعية عندما قبل التحكيم لأنه لا يحق له ذلك، فانشق عن علي من تم دعوتهم بالخوارج وأعلنوا الحرب على الطرفين، وأهدرت دماء كل من علي ومعاوية وعمرو واعتبروهم مصدر الفتنة. في هذا فهم أول التكفيريين الذين تمأسسوا ونموا ومثلوا شرا مستطيرا منذ ذلك الحين وحتى الآن.

الحقيقة أن وجود فئة متطرفة مثل دائما عنوانا للفكر المتعصب، وهي ظاهرة اجتماعية لا بد من وجودها وتجتذب حوالي 10 بالمائة من أي مجتمع. لكنها اكتسبت قوة أكبر من ذلك بسبب دعم كثير من القوى الخارجية لها لاستخدامها كحصان طروادة. دورهم في الأغلب تخريبي ويخدم مصالح الغرباء أو الظالمين أكثر من خدمته للمستضعفين وأصحاب الحق والمبدأ، مع أنهم أكثر الناس ضجيجا أن هدفهم الإصلاح وهم المفسدون ولكن لا يشعرون ( أمثلة معاصرة بعض الإسلام السياسي والحركات التكفيرية).

نجح الخوارج في قتل علي، بينما نجا معاوية وعمرو مما حسم المعركة لصالح بني أمية، وخاصة بعدما قام الحسن بالتنازل وبايع معاوية، لكنه قتل لاحقا بالسم دون تحديد مؤكد لمن قام بذلك بينما اتهم الشيعة الأمويين. سقط حكم علي بمؤامرة وتمرد الخوارج على الجميع، لكن الكاسب كان بنو أمية الذين حولوا نظام الحكم التشاوري والانتخابي مبدأيا على الأقل الى نظام ملكي إمبراطوري أسري.

بعد فرض معاوية بيعة يزيد ومن ثم وفاته، رفض الحسين بيعة يزيد باعتباره فاسقا وأنه أحق بالحكم. وقد وجد الحسين دعما كبيرا من أهل العراق والحجاز مما شجعه على الاستمرار. عندما قرر الحسين السفر للعراق للبدء بحركة تولي الحكم حذره والي العراق من الحضور لكنه أصر. تبين خلال رحلة الحسين تخلي الكثيرين من أتباعه عن دعمه لكنه استمر، وقام الوالي بإرسال فرقة عسكرية لمنعه من الوصول للعراق والكوفة فالتقوا به في كربلاء وقتلوه ومن معه بمعركة غير متكافئة، وأسروا النساء وأرسلوهن الى دمشق.

تم اعتماد سب علي وأبنائه في خطب الجمعة حتى عهد عمر بن عبد العزيز الذي رفض ذلك، واعتبر أن الحل الوحيد هو إيقاف الفتنة وذيولها.

تمردت كثير من القوى خلال عهد بني أمية وتم قمعها بالعسكر. بدأ شيعة علي يرسخون موقفهم بهدوء ضمن البلاد المفتوحة وخاصة بلاد العراق وفارس. واستطاعوا بالتحالف مع بني العباس تكوين حركة معادية أسقطت بني أمية وقضت على حكمهم. لكن بني العباس اعتبروا حق الولاية لهم ورفضوا النزول لأبناء علي بحجة واهية تقوم على أولوية العصبية على البنت، وأن أبا طالب توفي قبل الرسول مما يحرم وراثة علي، بينما يرث أبناء العباس لأن أباهم كان حيا وقت وفاة الرسول. وكما ذكرنا سابقا فحجة بني العباس واهية، لكن ذلك لا يعطي شرعية لبني طالب إذا رفضنا مبدأ الوراثة أصلا واعتبرنا الشورى هي الأساس، وهذا منطقي لأن الحكم ملكية عامة لا تورث.

رسخ هذا الانحراف انفصاما دائما، وأدى إلي تحولات في بنية الموقف الشيعي الذي اعتبر العداوة لعلي ونسله مبدأ راسخا من أهل قريش أمويين أو هاشميين على السواء. وساد الاعتقاد أن حرمان أبناء علي من الحكم له أسس وحكمة إلهية. وتم التعبير عن ذلك من خلال نشوء مفهوم الأئمة المعصومين وولايتهم ومذهب الإثني عشرية الذي ربط نهاية العالم بعودة الإمام المختفي الثاني عشر، واتخذت هذه المعتقدات منحى شبيها بعودة المسيح والحواريين الإثني عشر.

ترسخ التفاوت الديني خلال العهد العباسي، وارتبط مفهوم الشيعة بالنقمة والحزن على من خان عهد النبي والأمر الإلهي، وعادى أبناء الرسول، واعتدى على حقوق المسلمين. امتزج ذلك بمرارة من بني أمية وبني العباس الذين حكموا دهورا، مما صنع انفصاما آخر بين الشيعة والعرب وسهل إمكانية تبني المفهوم من غير العرب، ما يفسر نجاح الشيعة في بناء الدولة الفاطمية شمال أفريقيا ومن ثم تطورها اللاحق في إيران رغم الفارق الزمني (تبني الفرس الشيعية فقط بعد 1600 ربما تعبيرا عن احتياط ضد هيمنة العثمانيين أكثر منها اقتناعا دينيا).

تعامل السنة مع الأمر بمحاولة التوفيق، وهذا محبذ إذا تم بعدل وإنصاف وليس به ضرر إن تم دون تزوير، لكن مذهب السنة احتوى الكثير من ذلك لتبرير حكم الأمويين والعباسيين. وتفاقم الأمر باتجاه عكسي من قبل الشيعة مما منع إمكانية الوصول الى توافق معقول على الخلاف السياسي بما يمنع استخدام التزوير ليصبح معتقدا دينيا.

الدروس والعبر

  1. من الممكن إيجاد صيغة معتقدية تنقي الموقفين السني والشيعي، وتفصل التراث السياسي والاقتصادي المحور عقائديا عن أساس العقيدة المشترك.
  2. يمكن الحكم بموضوعية بأحقية علي على معاوية بالحكم، ونزاهته وقربة من أصل الإسلام ووقوفه مع الفقراء والمستضعفين الذين يأتي الدين عادة لتحريرهم ونصرتهم.
  3. لا بد من تحرير الإسلام من تراثه السياسي المعتمد كعقيدة، لنصل الى ثورة في تصحيح نظام الحكم، يقوم على الشورى كمبدأ حقيقي، وليس طقسا لتمرير معتقدات أخرى.
  4. عند ذلك يصبح سهلا تحريره من تراثه الاجتماعي والاقتصادي الذي يعامل كعقيدة مما يفتح المجال لثورة اجتماعية حقيقية.
  5. يكسب السنة والشيعة كثيرا إذا وجدوا طريقا مشتركا، وسيخسر فقط أصحاب المصالح والمستغلون والطبقيون والعنصريون. لكن تحرير الإسلام من الأوغاد والمفاهيم الزائفة يتطلب درجة عالية من الوعي والإيمان العميق بوحدة الإنسانية والتخلي عن العقد العنصرية والطبقية والطائفية.
  6. أهم نتيجة لبلورة الصيغة الحقيقية للإسلام التي تفصل التراث عن المعتقد ستكون خلق ديناميكية لنشره بقبول كبير وبعقل منفتح، بحيث يصلح لكل الناس ممثلا لثورة تحقق التحرر السياسي والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، وتوفر صيغة معقولة لما بعد الحياة.
  7. لا بد من اكتشاف وبلورة آلية تنقية الإسلام دوريا من الفساد. فالفساد جزء من تطور المجتمعات ولا يمكن إلغاؤه، وإن لم نجد طريقة للتنقية والتحديث ستفشل الأمور مرة أخرى. أعتقد أن هناك آلية مناسبة سهلة الاكتشاف من خلال أساس الدين. اللهم وفق الشيعة والسنة لما فيه خيرهم وخير الإنسانية.