مسائل في الديموقراطية والعدالة

January 15, 2025 Off By Salman Salman

مسائل في الديموقراطية والعدالة

شروط تحقق الديموقراطية

يعتقد بعض دعاة الديموقراطية وعلى حد سواء بعض معارضيها أن الشعوب العربية غير مؤهلة للديموقراطية من منظور عدم أصالتها في الثقافة العربية ويختلف الطرفان في العلاج. يدعو بعض المنظرين إلى تعليم الشعب مفاهيم الديموقراطية بالتثقيف وتقليد التجارب الغربية من خلال تطبيق مفاهيم محددة تبدأ عادة بمواقف سلبية من الدين أو دعواى ذات طابع غربي لمفهوم تحرير المرأة أو خصخصة الاقتصاد. ومع أن تلك المفاهيم لا تتناقض مع أسس الديموقراطية إلا أنها ليست بالتأكيد شروطا لها.

فالديموقراطية أساسا هي اختيار رأي أغلبية الشعب مع الحفاظ على حق الأقلية في المعارضة وخضوع الطرفين لنفس القانون دون تمييز. وهي تجربة تنجم عن توازن داخلي لقوى الشعب وتياراته الفاعلة مع درجة عالية من الاستقلال الوطني وتوفر أدوات المحافظة من التدخلات المفصلية للقوى الأجنبية.

وهي تبدأ عند تطور مستوى الحرية في المجتمع بعد توفر حريته عن الخارج وتعتمد على تجربة الشعب التاريخية ومسلماته العقائدية أو الفكرية. ولكنها لا تكتمل دون توفر الشرطين الأساسين وهما الاستقلال وتوازن القوى.

والديموقراطية المطبقة في الغرب تستوفي شرطي الاستقلال وتوازن القوى بشكل عام. وفي ما عدا ذلك تختلف فيما بينها في كثير من المعتقدات أو وسائل الممارسة. ورغم هذا علينا أن نتذكر أن الاستقلال عن الخارج مسالة نسبية ومن الصعب توفره بالمطلق. فحتى الديموقراطيات الغربية تخضع لكثير من القيود المفروضة من تأثيرات القوى الخارجية أو تغلغل تيارات المصالح الخاصة.

ويمكننا القول أن طرح شعار الديموقراطية كمفهوم محسوم المعالم وواضح المواصفات يمثل سذاجة فكرية أو توجها مقصودا لتصدير نمط محدد من أنماط الحكم لخدمة قوى ذات مصالح خاصة أو تمثل امتدادا لقوى خارجية. وهذا يتطلب الحذر الكبير عند تناول تطبيق الديموقراطية كشعار أو ممارسة.

المشكلة الأخرى في الطرح الديموقراطي هي تبسيط المفهوم الديموقراطي بطقوس إجراء الانتخابات لاختيار القيادات الحاكمة دون التعمق في مدلول تلك الانتخابات وشروطها وطريقة أدائها من خلال قوانين الانتخاب المختلفة. حيث يمكن في كثير من الأحيان لأقلية منظمة أن تخترق النظام الديموقراطي وتسيطر على الأغلبية بأساليب غوغائية أو بهيمنة على مقدرات الثروة الوطنية أو الفكرية. بحيث يتم اختطاف الحكم من الشعب باسمه وبشرعية تفوق كثيرا هيمنة الدكتاتوريات أو الأنظمة الشمولية. وهذا محذور تقع فيه معظم التجارب الديموقراطية لأسباب تطور موضوعية في بنية المجتمع وتوازن قواه أو بسبب التدخل الأجنبي.

وهذا يعني أن التجارب الديموقراطية محدودة في الزمان أو التعبير الحقيقي عن إرادة الأغلبية وينعكس بالتالي على نسبة تحقق العدالة الاجتماعية أو الاقتصادية. فمن الممكن تحقق الديموقراطية حسب التعريف أعلاه بنسبة تختلف عن نسبة تحقق العدل الاجتماعي والاقتصادي.

هل يعني ذلك التخلي عن الفكرة الأساسية. بالطبع ليس بالضرورة لأن المفهوم الديموقراطي السياسي يظل أفضل الوسائل لتوفير حكم الأغلبية. لكن التجديد والمراجعة الدائمة تعتبر شروطا لبقاء النظام الديموقراطي معبرا عن موقف الأغلبية وحاميا للأقلية.

ولتوفير درجة معادلة للعدالة الاقتصادية والاجتماعية لا بد من نظم اقتصادية واجتماعية ديموقراطية أيضا. وشروط ذلك ترتبط كثيرا بالشروط السياسية لكن يضاف لها التوزيع المنتظم للثروة ووضع سقوف لها تمنع الاحتكارات ضمن مجموعات اقتصادية أو عرقية أو دينية.

تصنيف الديمقراطيات والعدالة في العالم حسب التعريفات أعلاه:

في تقدير نسبة تحقق الديموقراطية في كل بلد تم جمع نسبة تحقق الشرطين: مثال: الدول الغربية تحقق الاستقلال بحوالي 45-50% فهي دول حرة بشكل عام بل استعمارية والتوازن يتراوح بين 30-35% فقط بسبب هيمنة الطبقات الاحتكارية والرأسمالية على النظام السياسي. بالمقابل تحسب العدالة الاقتصادية من خلال التوزيع التكراري للثروة وليس المتوسط فالمتوسط لا يعني أكثر من أن الدولة غنية أو فقيرة. أما التوزيع المثالي ويستحق 100% فهو منحنى طبيعي تتوزع الثروة فيه حول المتوسط بحيث تكون نسبة من يقع ضمن الانحراف المعياري حول المتوسط تساوي حوالي 70% من الناس وهذا طبعا يختلف تماما عن المتوسط فقط.

الدول الغربية: توفر شرط الاستقلال ولكن هناك نوع من الخلل بتوازن القوى. فمعظم الديموقراطيات الغربية تسيطر عليها طبقات رأس المال وذوي المصالح الخاصة بنسبة مهمة. وهناك تأثيرات خطيرة على النظام نفسه بسبب هيمنة غير متناسبة للموقف الصهيوني وتمييز عنصري بين مختلف الإثنيات. تحقق الديموقراطية بين 70-80%. أما العدالة الاجتماعية والاقتصادية 60%.

حلفاؤها في آسيا( اليابان والفلبين وكوريا): الديمقراطية بالتبعية وليس بالروح فشرط الاستقلال معدوم حتى مع اليابان ومع أن ذلك لا يبدو سيئا بالنسبة لهذه الدول بعد تقدمها الاقتصادي إلا انه يعني عدم إمكانية الاعتماد عليها بموقف إنساني مستقل خارج التوجيه الغربي. نسبة تحقق الديموقراطية أقل من 50%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 70%.

دول حلف وارسو سابقا: توفر شرط الاستقلال لروسيا وأقل لبقية الدول الأوروبية من الحلف وأقل من ذلك للجمهوريات السوفييتية الآسيوية. هناك سيطرة لذوي المصالح الخاصة لكن الأنظمة مؤهلة نظريا للتفوق علي الغربية. التمييز العنصري أقل حدة من الغرب لكنه مؤثر. الديموقراطية 75%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 65%.

الصين: يمكن القول أنها لا تحقق شرط توازن القوى ولا تمارس طقوس الحكم والانتخاب كما الحال في الغرب لكن درجة التعبير عن رأي الأغلبية لا تقل كثيرا عن تلك الدول. هناك هيمنة بيروقراطية الحزب. الديموقراطية 60%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 75%.

الهند ( وباكستان وبنغلاديش): هناك نظام ديمقراطي ودرجة من الاستقلال وتوازن قوى بدرجات معقولة. المشكلة الأساسية الانقسام الطبقي الحاد. طبقة المنبوذين تعتبر وصمة عار على النظام الاجتماعي في الهند والصراع الديني أيضا يؤثر بشكل كبير. الديموقراطية 65%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 40%.

أميركا اللاتينية: هناك تفاوت. يمكن اعتبار البرازيل الأكثر تحقيقا والأفضل من نواحي العدالة الاجتماعية وليس هناك تمييز عنصري حاد أو نفوذ لذوي المصالح الخاصة بنفس درجة الغرب. ويمكن القول أنها تحقق شروط الديمقراطية أفضل من الغرب لكن ينقصها الانتشار العام والوعي الجماهيري. النظام مؤهل نظريا للتفوق على ديمقراطيات الغرب لا شك أن للرئيس السابق لولا فضل كبير. الديموقراطية 75%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 75%.

أفريقيا السمراء: جنوب أفريقيا تحقق السبق وهي الأفضل نظريا ودستوريا لكنها تحتاج لوقت طويل حتى يتم خلق التوازن الاقتصاد والاجتماعي. فرغم أن حزب المؤتمر مميز في تراثه الديموقراطي إلا أن بقاء الكثير من الثروة بيد البيض وانتشار الفقر يمثل تحد للنظام الديمقراطي. وبمقدار التحرر من تبعية وهيمنة البيض ستتحقق ديموقراطية مميزة. الديموقراطية 70%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 50%.

بقية أفريقيا تحتاج الى زمن طويل لتحقيق الديموقراطية والسبب النزاعات العرقية والفقر وعدم تحقق الاستقلال.

العالم العربي: لا تعليق مصر: على الطريق والله اعلم.

تركيا: تطور نوعي منذ نجاح حزب العدالة. هناك درجة عالية من الاستقلال وتوازن قوى كبير بين العلمانيين والمحافظين. هناك نهضة اقتصادية كبيرة ورغم تراكم رأس المال إلا أن حدة التمايز الطبقي أقل من الغرب لكن التجربة قصيرة ومن الصعب الحكم على المدى البعيد. الديموقراطية 75%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 75%.

إيران: هناك ديمقراطية انتخابية مضبوطة من قبل المرجعية الدينية وهي تجربة أثبتت صلابتها واستمرارها على مدي 30 عاما حيث تم تغيير الرئيس بشكل شبه دوري. لكن الطبقية الاقتصادية والدينية حادة لدرجة كبيرة والتمايز العرقي والقومي قوي أيضا. التمايز بين العلمانيين والمحافظين قليل التأثير رغم كثرة الضجيج والسبب الرئيس دعم الغرب للعلمانيين. أهم مشاكل تحقق الديمقراطية تكمن في سيطرة الطبقة الدينية والاقتصادية على معظم مقدرات البلد وهي في هذا تشبه الغرب. الديموقراطية 70%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 60%.

تجارب دول صغيرة لكنها بليغة:

إسرائيل: تعتبر من الأكثر تطبيقا وهناك استقلال قوي بل هيمنة لها على غيرها وتوازن قوى مع وجود تمايز طبقي بين اليهود وعنصرية غير عادية ضد عرب 48 فوق احتلال الضفة الغربية وغزة. فإذا تضمن التقييم الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال تسقط ديموقراطية إسرائيل ويظهر تناقض مظهرها بمحتواها. بدون حساب الفلسطينيين: الديموقراطية 85%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 80%. بالفلسطينيين: الديموقراطية 35%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 30%.

كوبا: مع أنها ليست ديمقراطية بالشكل الغربي إلا أنها تحقق توازن القوى والاستقلال الوطني. وهي مستقرة رغم حصار طويل والشعب متجانس طبقيا وليس هناك تسلط لذوي المصالح الخاصة. وهي تحقق شروط الديمقراطية أفضل من الغرب رغم تصنيفها الغربي كديكتاتورية. الديموقراطية 70%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 70%.

فنزويلا ونيكاراغوا وبوليفيا: تجارب مميزة فهي تحقق الشرط الشكلي والحقيقي للديمقراطيات. ليس هناك انقسام اجتماعي حاد أو هيمنة لأصحاب رأس المال وهي ديموقراطيات تسير على هدي البوليفارية وتعتبر ناجحة بكل المعايير لكنها محدودة النفوذ بسبب صغرها. الديموقراطية 70%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 70%.

فلسطين: تجربة مميزة ومتعثرة فهي أول محاولة لتطبق الديمقراطية تحت الاحتلال. تحقق شرط توازن القوة لكنها تفتقد الاستقلال أو السيادة وهذا ظهر جليا في تجربة الحكم التي انتهت بالانقسام لأول مرة في تاريخ الشعب الفلسطيني. اجتماعيا واقتصاديا: بسبب الاحتلال المباشر تلاشت الفروق الاجتماعية وتوحد الشعب ضد الاحتلال وهرب معظم الطبقيون. أما بعد نشوء السلطة فقد نمت هيمنة طبقية مشوهة وناشئة تؤسس إلى خلل اجتماعي غير مألوف ضمن الشعب وبشكل لا يتناسب مع وزنها أو مساهمتها. الديموقراطية 50%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 40%.

ليبيا: تجربة فريدة في محاولة تطبيق الديمقراطية المباشرة. طبعا سوف يبتسم الجميع وربما يغضب البعض عندما نحاول تقييم هذه التجربة التي توصف بالدكتاتورية. وهي تجربة حزينة بكل المقاييس. فلو قرأنا الكتاب الأخضر نجده صادقا في تشخيصه لعدمية أنظمة الحكم المختلفة فالديمقراطيات الغربية فاسدة لدرجات كبيرة وهناك هيمنة احتكارية لرأس المال وليس هناك عدالة اجتماعية أو توزيع للثروة. المشكلة في حلوله المقترحة تمثلت في الاعتقاد أنه بتغيير المصطلحات يمكن تغيير المحتوي ولم يأخذ بالاعتبار اللازم عمق الفساد الإنساني و نفوذ القوى المقابلة.

وبسبب الانغماس بالعالم ومحاولة التأثير على السياسة الدولية بشكل أكبر من حجم ليبيا فقد بذل القذافي جهودا كبيرة نحو الوحدة العربية عوملت بعدم جدية. وقد تمدد أفريقيا ووجد تجاوبا أفضل لكنه اكتشف سريعا تعثر أفريقيا وفقرها وعدم تأهلها لقيادة حركة تغيير عالمية. ومع أنه نجح في تأسيس الاتحاد الإفريقي إلا أن تأثيره بقي محدودا.

حاول التمدد لأميركا اللاتينية لصنع تحالف مع أفريقيا والصين بإعادة بناء لفكر عدم الانحياز الذي تلاشى بعد عبد الناصر وتيتو وسوكارنو ونهرو. قضى القذافي عمره يحلم ولم يتحقق حلمه وحوصر وحده. وعندما أراد الفكاك تطلب الأمر دفع خاوة كبيرة وربط الاقتصاد بالغرب ودفع ثمن ذلك منذ عام 2003. لم يشفع له الغرب واستمر بوصفة بالإرهابي وانتهي الأمر بالهجوم عليه في عقر بلده. الديموقراطية 50%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 65%.

دكتاتورية النظام العالمي الذي يتبنى الديمقراطية: تسلط مجلس الأمن

منذ سقوط الاتحاد السوفيتي وبروز الولايات المتحدة كقوة اقتصادية عسكرية مركزية القرار ورغم وجود الاتحاد الأوروبي المعادل اقتصاديا لكنه مشتت القرار فقد سيطرت الولايات المتحدة من خلال نفوذها العسكري أساسا على مجلس الأمن بطريقة جافة ومتعجرفة. وتبدي ذلك بأقصى الدرجات زمن بوش الصغير. لكن الآليات ترسخت بحيث نرى نفس النمط مستمرا حتى بعد اكتشاف العالم وحشية النظام الرأسمالي الغربي القائم على الاحتكار والعولمة والعنصرية والتسلط القائم على التهديد بالقوة أو استخدامها.

وقد مارس مجلس الأمن ديكتاتورية غير مسبوقة على دول العالم وخاصة الصغيرة منها. وتميزت السيطرة للولايات المتحدة بسبب تردد دول المجلس الأخرى في استخدام الفيتو مما أعطي شرعية لهذه الديكتاتورية. وما عدا غزو العراق فقد تدثرت معظم ممارسات الولايات المتحدة والغرب التسلطية بغطاء قانوني وشرعية دولية. وظهر مقدار التنفذ الصهيوني على توجهات أوليات السيطرة والنفوذ وتم تحييد القوى الدولية الأخرى من خلال التهديد باستخدام القوة خارج مجلس الأمن كما حصل بالعراق أو تقديم إغراءات لتلك الدول ومصالح تجعلها تغض الطرف.

الديموقراطية 10%. العدالة الاجتماعية والاقتصادية: 20%. وهذا عار كبير على مؤسسة دولية تدعي الحرص على حقوق الإنسان وتبشر بالديموقراطية ولا داعي لسرد الأمثلة فهي لا نهائية.