ليبيا وما بعد: ضياع دليل مثقفي الثورات

January 15, 2025 Off By Salman Salman

ليبيا وما بعد: ضياع دليل مثقفي الثورات

د. سلمان محمد سلمان – أستاذ الفيزياء النووية والطاقة العالية – قلقيلية – فلسطين

ما يلفت الانتباه طبيعة الاصطفافات تجاه الثورات القائمة في العالم العربي وكما يبدو فالعقل العربي الجمعي بليد إلى درجة رفض فهم تعقيدات الأمور وتميزها ولا يستطيع استيعاب أكثر من;evH جملة واحدة تختصر الموقف وتفسره. الحقيقة أن من الصعب على الكثير من المحللين إقناع أنفسهم منطقيا بما يطرحون فكيف يقنعون غيرهم. فهم يخلطون الحابل بالنابل ويشتمون الغرب المنافق وينسون نفاقهم عندما يحاولون تفسير ما يحصل.  ربما من الأسهل للجميع لو قالوا ما يريدون فقط دون تبريرات متناقضة. عند ذلك ستكون الحياة أسهل لهم ولغيرهم. لن يغير ذلك من نتائج المعارك القائمة على كل حال لكنه ربما يخفف الانغلاق المطبق على السماء العربية.

سنتعرض لمجمل هذه التغطيات التحليلية ولكن قبل ذلك نود التذكير بأهم منطلقات تقييمنا. فان اختلف البعض مع فهمنا يمكنه رفض ما نريد لكنه لن يستطيع القول أننا نقول غير ما نؤمن به. لمزيد من المعرفة لوجهة نظرنا يمكن الرجوع لدراسة انهيار النظام العربي المنشورة سابقا.

أولا: ثورات مختلفة تتطلب التمييز: نلخص الأمر كالتالي:

1-1 مصر وتونس:

إجماع شعبي كبير على رفض النظام وتعاون كبير من قبل قوى الشعب المنظمة وحيادية ايجابية من قبل الجيش وبالتالي سقوط الحاكم بأقل عنف ممكن. الدور الغربي: لم يلزم تدخل بأكثر من إشعار الجماهير والجيش تحديدا أنه لا يمانع من إسقاط النظام لكنه يريد نظاما لا يتحدى الغرب ولا يخرج عن سياسته العامة الاقتصادية والاجتماعية وهناك حرص خاص على كيفية التعامل مع إسرائيل. وقد انقسمت مواقف الغرب بين من اعتبر إسرائيل موجهة للسياسة الغربية ومن افترض ضرورة تبعيتها. وعليه فقد كان هناك سيطرة لوجهة النظر الأولى بسبب قوة توحد الموقف الشعبي ونتج عن ذلك قلق كبير من قبل التيار الموالي لإسرائيل وتطلب ذلك تحركات جديدة تحجم مستقل الثورة المصرية تحديدا.

ليس هناك خلاف أن مبارك تعاون مع الغرب كثيرا ونفس الأمر بالنسبة لبن على. وعليه فالسؤال عن سبب تخلي الغرب عنهم يتطلب إجابة مناسبة. فالغرب لا يتخلى عن حلفائه دون مكتسبات أكبر ولا يكفي القول أنه استنفذ مهمته ولا يعقل قبول الغرب التخلي عن حلفائه دون الاطمئنان بالحد الأدنى أن يكون البديل أفضل وهذا يبقى سؤالا برسم المستقبل. هذه المقولة تفسر لماذا لا يقبل الغرب أي تغيير ضمن دول الخليج أو المغرب لأنها دول حليفة للغرب على مدى أجيال من الآباء إلى الأبناء ومن شبه المستحيل إيجاد بدائل أفضل منها.

1-2 اليمن:

موقف الغرب بشكل عام حيادي: فهم لا يرغبون في تغيير غير واضح لكنهم لا يعتبرون الرئيس صالح حليفا. ومع انه تعاون مع الغرب وخاصة أميركا خلال “حرب الإرهاب” إلا أن ذلك كان تجاوبا تحت الضغط أكثر منه تعاونا عن رغبة أو انتماء للغرب.  فوق هذا لا يرى الغرب مانعا من تقسيم اليمن تحت ضغوط التغيير التي يغذيها انفصال تاريخي لفترة تصل إلى حوالي قرن من الزمان بين الجنوب والشمال وطائفي بخصوص حوثيي صعدة. لكن هذه القوى لا تستطيع الانفصال دون دعم خارجي بحكم أكثرية الشمال المتبقي وتكافله القبلي. لكن  الغرب لا يريد نمو نبت شيطاني من القاعدة في حضرموت يهدد استقرار المنطقة رغم استخدام الكثيرين للقاعدة كفزاعة. وطالما بقي الاحتجاج مقتصرا على قوى الانفصال فلن ينجح بحكم الأغلبية الكبيرة للشمال. لكنه يصبح محتمل النجاح في حالة انشقاق من قبل الشمال وهذا يتطلب مزيدا من الوقت.

موقف الغرب انتهازي فهو يقبل استمرار الاحتجاجات بأمل انهيار اليمن وانقسامها وبالتالي لا يريد نجاح على صالح في الحسم. لكنه أيضا لا يريد سقوطه وما يحمل ذلك من خطر على استقرار المنطقة. وإذن من غير المناسب وصف الوضع في اليمن بالثورة بل هو احتجاجات أساسها مصالح جغرافية أو طائفية. ومن الأفضل لليمن حل مشاكله بطرق أخرى غير الخروج للشوارع والذي أصبح مشهدا سخيفا حقا. فما معنى خروج مئات الآلاف كل أسبوع يطالبون برحيل الرئيس عندما يخرج مثلهم أو أكثر منهم مؤيدين.

انه يعني فقط أن المرجعية عند ذلك تبقى للدستور وبهذا يكون الموقف مع الرئيس على صالح. أحببنا صالح أو كرهناه لن يغير هذا من حقيقة تمتعه بدعم قطاع كبير من الشعب ولا يمكن إخراج كل هذه المظاهرات بذريعة الخوف فالآخرون ليسوا خائفين. ولا يمكن أن يكون بإغراء المال بحكم الأعداد وإذا قبلنا ذلك فما الذي يمنع المقابل أيضا من نفس الاتهام.

كل هذا يتطلب التفكير من الذين يرفضون كل عروض صالح وتنازلاته التي في رأيي لا يحركها الخوف من المعارضين بمقدار الخوف على اليمن. موقف الرئيس أعلى أخلاقيا من المعارضين له. فعندما حاول مبارك استنهاض الجمهور استطاع إخراج عدد محدود من آلاف المتظاهرين مقابل ملايين من المعارضين. بمثل ذلك الوضوح لم يكن ممكنا للرئيس الادعاء انه محبوب من الشعب وان له قاعدة شعبية تتطلب احترام الوضع الدستوري. ونفس الأمر حصل لبن على إما اليمن فليس الأمر كذلك.

1-3 ليبيا:

يتندر كثير من الكتاب والسياسيين ومنهم الثوريون على القذافي ويجعلونه موضع استهزاء ولكنهم بنفس الوقت يهاجمونه بحقد غير طبيعي مع أن من غير المألوف التندر على خصم دموي تخافه. وهذا أول التناقض وهو تقليد للصورة النمطية التي يريدها الغرب عنه أكثر من تعبير عن الحقيقة.

هل القذافي دكتاتور: لا أعرف ولا يحق لي الحكم فهذا الجزء تحديدا مسئولية الشعب الليبي والجواب يتم بانتخابات حرة ونزيهة والرجل أبدى استعاده لذلك من البداية.

القذافي ليس عميلا لأحد وكل من يريد تبرير الأمور بهذا الفرضية يعرف أنه يكذب أو يخدع نفسه فلو كان القذافي عميلا فليس هناك أي مبرر للمبادرة بإسقاطه وخاصة بالشكل الذي يتم الآن. من الواضح انه ليس هناك أي إجماع ضده من شعبه وكل ما استطاع الثوار تحقيقه رغم كل الدعم احتلال منطقة مميزة جغرافيا قليلة السكان بعيدة عن المركز ومعارضة ليس للقذافي شخصيا بل ربما تعتبر نفسها مختلفة عشائريا عن غرب ليبيا.

والشرق يمثل حوالي مليون نسمة بينما الغرب حوالي 5 مليون. من الواضح أن الغرب هو الأغلبية وعليه من المستحيل لثوار من الشرق تحقيق أغلبية دون تعاون كبير من غربها. ولأنهم لم يستطيعوا ذلك فقد طلبوا تدخلا سافرا من الغرب ومساعدته العسكرية الفجة وضرب قوات الحكومة ويريدون من الغرب تسليحهم. ثوار ليبيا لا يحققون صفات الثورة الشعبية السلمية ولا يمثلون ثورة مسلحة صالحة للنصر.

القذافي ليس عميلا للغرب رغم انه تنازل لهم كثيرا وبنوع من السذاجة النسبية في فترة الانهيار العام زمن بوش. لكن تنازله لم يصل لدرجة أن يكون حليفا للغرب وهم يعرفون ذلك. أراد القذافي تجاوز الحصار منذ عام 1992 وحتى 2003 وكان خائفا بعد احتلال العراق ولم يكن في ذلك وحيدا فحتى روسيا والصين كانتا خائفتين. وعليه فكل تحركاته منذ عام 2003 مثلت هروبا وخوفا لمنع الأسوأ أكثر منها تآمرا أو تحالفا مع الغرب. وهذا يشبه سلوك الرئيس الشهيد ياسر عرفات (رغم اختلاف المعطيات والشخصية لكل منهما) عندما قبل التعامل مع مدريد أو اوسلو. فهو لم يدخل مقتنعا بمقدار ما كان تعاملا مع مرحلة مخيفة. وكما لم يصفح الغرب عن عرفات عندما رفض استكمال الدور الخطير في كامب ديفيد الثانية فلن يصفح عن القذافي مهما عمل طالما لم يعلن الولاء التام وهذا لم يتحقق.

الغرب يتخلى عن حلفائه فقط إذا أصبحوا مكلفين وغير مفيدين تماما وأمكن إيجاد بدائل أفضل منهم. ويتم التغيير عادة بطرق سلمية وبأقل عنف ممكن. والغرب لا يهاجم حلفاءه بالقسوة التي تمت في العراق أو ليبيا. هذه القسوة والعنف محجوزة لأعداء أشداء حتى لو تراخوا بعض الوقت. وإذا أخذنا بالاعتبار أن علاقة ليبيا بالغرب لم تعان من مشاكل خطيرة منذ فترة فلم يكن هناك مبرر للهجوم العنيف لإسقاطه وربما كان من المعقول التعامل معه مثل حالة اليمن على الأكثر. لكنه عومل بقسوة وسرعة فلماذا.

طبعا لا يمكن أن يكون الدافع إنسانيا فقط. يتم أحيانا ذكر النفط لكن ذلك لا يبرر السرعة وخاصة أن الشركات الغربية متنفذة بسوق النفط رغم أن هناك بعض السبب لأن ليبيا لا تعطي شركات النفط نسب امتياز عالية.  وأحيانا أخرى يفسر الأمر بغرض إسقاط القذافي لإقامة نظام على نمط مصر الجديدة يكتسب شرعية جماهيرية وهذا طبعا غير معقول لأن آلية الوصول للنظام الجديد تلوثت بالعنف والتدخل الأجنبي العسكري. ويتم التفسير مرات أخرى أن الدعم استباق للتغيير الذي كان سيفرضه الشعب وهذا طبعا قمة الإسفاف في حالة ليبيا. فلو تركوا الثورة لنفسها لما حصلت أصلا والدليل انسحاقها قبل بدء القصف الأميركي والغربي بل هي ضعيفة رغم كل الدعم. وإذن لماذا هذا التحرك الغربي المكشوف.

في رأيي أن التفسير يكمن في 3 أسباب: الأول تفجير ليبيا لإرباك نمو واتجاه ثورة مصر التي كانت مثالية وشجعت الناس على إعادة الثقة بانتصار إرادة الشعوب مما يشجع بروز حكام يؤمنون بنفس المقولة. وهذا يمثل خطرا كبيرا على موقف مصر من إسرائيل وتأثيرها الكبير على الأنظمة العربية الموالية للغرب وخطر عودة الروح الناصرية. تفجير ليبيا مثل رسالة تهديد لمن يفكر في مصر بانفصال عن الغرب. ومصر في وضعها المبكر والطري لم تصل لنقطة الشعور بالقوة. مرتبط بهذا طبعا أن سحق ليبيا يقصد به التذكير أن إسرائيل هي صاحبة الكلمة حتى قبل أميركا. وهذا يفسر حماس ساركوزي الصهيوني. ولا يخفى كيف تغيرت مشاعر إسرائيل وخف توترها الذي بدأ بعد نجاح الثورة المصرية. وهذا يفسر أيضا مطلقية دعم اللوبي الصهيوني لنفس التحرك. وعدم تحمس الموقف الآخر في أميركا ( أوباما والجيش) لهذا التطور وقبوله على مضض بسبب النفوذ الصهيوني أكثر من أي سبب آخر.

السبب الآخر ربما الرغبة في تقسيم ليبيا وخلق إمارة خليجية على حدود المتوسط تتكون من مليون نسمة تعيش بنفس نمط الخليج وتترك بقية الشعب الليبي فقيرا. وهذا طبعا يصب في حصار أي فكر تحرري في مصر وإعادتها لحظيرة المال النفطي الذي أفسدها على مدى 30 عاما.

السبب الثالث الخوف من بقاء القذافي في الحكم معاصرا لثورة تبدو جذورها الناصرية قوية. لن يجد القذافي مشكلة في التحول بالدعم المطلق للثورة المصرية تمويلا واندمجا كما كان الحال عندما كان مثله الأعلى عبد الناصر. تعاون المال من ليبيا والقوة البشرية من مصر المنفصلة عن الغرب ربما يصنع موقفا مصريا أكثر مقاومة وهذا غير مقبول حتى من معتدلي الغرب فكيف بالحلف الصهيوني.

هذه أسباب قوية للإسراع في مهاجمة ليبيا والانقلاب المفاجئ  وتفسر التململ الروسي والصيني والتردد المصري والأوروبي لكثير من الدول من خارج الموالاة للصهيونية من كل هذا العنف ضد ليبيا.

النظرية الصهيونية تقوم على أن سقوط ليبيا فوق خدمته الجليلة لإجهاض ثورة مصر سيفتح الطريق لإسقاط سوريا بنفس النمط وبحجج أخرى. وسقوط سوريا سوف يسهل إسقاط تركيا المنقسمة علمانيا ودينيا وبعد كل ذلك إيران. معركة ليبيا إذن تمثل مفصلا بالنسبة لمصر ومستقبل التغيير في المنطقة. وهي تشبه حالة معركة لبنان عام 2006.

1-4 سوريا:

تطرقنا بمقالة سابقة لسوريا وكان التقدير أنها مستقرة وموقفها القومي يعطيها امتيازا مع انه يسبب لها مشاكل أيضا. وذكرنا إمكانية استغلال خلفية الرئيس بشار الأسد الإثنية لإثارة النعرات وتبرير الهجوم فوق أن النظام طبعا أشبه بالوراثي. لكن تقديرنا أن تركيبة سوريا لن تسمح لأسباب أهمها الموقف القومي والوعي الشعبي واقتناع شريحة كبيرة من الشعب أن الرئيس ليس طائفيا إطلاقا وهذا واضح من حياته الشخصية فهو متزوج من سنية.

وقد حذرنا من التفجير كما الحال في ليبيا وهذا ما حصل وبنفس الطريقة من خلال تنظيمات مسلحة تهاجم أطراف البلاد وتثير الفوضى والقتل لتبرير تدخل أجنبي. فلو كان هناك إرادة شعبية وراء التحرك لبدأت في دمشق ساطعة.

بل أن مبادرة خروج مظاهرات تأييد ضخمة في مجمل المدن السورية للنظام مهما تم تصويرها بجهد منظم من الحكومة لا يمكن حجب حقيقة خروج أعداد كبيرة من خارج التوجيه الحكومي. بل ربما خرج كثير من معارضي النظام للتعبير عن رفضهم تطبيق النموذج الليبي وخاصة أنهم يرون المصائب واكتووا بما حصل في العراق من قبل.

طبعا توقيت التفجير كان بغرض التسخين حتى يتم الانتهاء من ليبيا ومن ثم التركيز على سوريا. وهذه ملاحظة تستحق الوقوف. فكما يبدو فالثورات العربية مبرمجة زمنيا بشكل غير طبيعي. لماذا انتظرت الثورة في ليبيا حتى نهاية الثورة في مصر ولماذا بدأ تسخين سوريا فقط بعد تفجير ليبيا. السبب متوقع: فلو انفجرت الثورات مجتمعة وكانت شعبية حقا لن تستطيع القوى الغربية والصهيونية ضبطها. ولأن بعض هذه الثورات غير مدعومة شعبيا فهي تحتاج حضانة مستمرة وعناية مكثفة من القوى الخارجية لجعلها قابلة لتحقيق الأهداف.

إذا فشلت الثورة في ليبيا لن يتدهور الوضع في سوريا وستضعف محاولات التفجير أما إذا نجحت فسوف يتم تصعيد الموقف. تقديري أن ليبيا لن تسقط وسوف يفشل مشروع التغيير فيها مع أن ذلك ربما يستغرق وقتا. وعليه فربما لن يتم التصعيد في سوريا بالطاقة القصوى. لكن هذا يتطلب من سوريا الإسراع بضبط الأمن ومنع تظاهرات تحتمل العنف الموجه. من الواضح أن مراكز التصعيد محدودة ويمكن ضبطها. في نفس الوقت من المفيد جدا الإسراع في إصلاحات حقيقية تشمل العدالة الاقتصادية وسحق الفساد وتطوير نظام الحكم ليعبر عن رأي الشعب بشفافية أكبر. وهذا ممكن ولن يؤذي استقرار نظامها السياسي مع أنه يتطلب تقليلا من مظاهر التبجيل التي تواكب رأس النظام.

ثانيا: مواقف وتحليلات فهم الثورات

تتراوح بين مواقف تبسيطية وحيدة البعد وسهلة الانقياد لمواقف متآمرة من جهة وبين مواقف تعتبر التآمر سيد الموقف المطلق مع استحالة تحقيق أي تغيير ايجابي من جهة أخرى. الحقيقة تقع بين الموقفين.

2-1 النظريات التبسيطية وحيدة البعد:

أبسط النظريات تقول أن الجماهير العربية ملت الوضع وتريد الثورة والتغيير مهما حصل. وعليه فدعم الثورات مهما كان مصدرها هو الحل. وهذه نظريات ربما تكون صحيحة جزئيا في وصف النظام العربي بالفشل لكنها لا تعبر إطلاقا عن حقيقة الفروق بين القوى العربية. وبتبسيطها هذا هي تقبل هزيمة القوى الايجابية نسبيا بشعار أحقية التغيير بينما لا تقول شيئا أمام عدم حصول أي من الثورات على مستوى القوى الأكثر ولاء للغرب. وحسب هذه النظرة السطحية يصب التأييد الأعمى للتغيير في خدمة أجندة تغير من يقاوم الغرب ولو جزئيا وبقاء الحليف.

طبعا السكرة التي تجعل هذا الموقف متعنتا هي نجاح ثورتي مصر وتونس وبالتالي يقولون دعها تأخذ مجراها فسوف تنتهي بخير كبير. وينسون أن ثورتي مصر وتونس لم تحسما بعد لصالح الأمة وأن هناك أخطارا تتهددهما بمقدار فرص نجاحهما.

من يؤمنون بهذا الحل البسيط هم معظم الشارع العادي الذي لا يرغب في فهم المعادلة أو لا يستطيع ذلك بسبب الإعلام الموجه. لكنه أيضا يشمل قطاعات ممن ينفذون أجندات انتقام خاصة أو أجندة الغرب. فهم من جهة يصمتون عندما لا تحصل ثورات في مواقع تتطلب ذلك أو تقمع في المواقع المرفوضة غربيا بل يدعون لعدم صحة حصولها. ويرفعون عقيرتهم بدعم التغيير عندما يصيب قوى لن يؤدي ضربها للتغيير الايجابي بمقدار الفوضى والدمار. وتشمل هذه القطاعات معظم الإعلام العربي والغربي ودول الخليج.

2-2 مواقف مسبقة وحزبية موجهة:

وهي وإن كانت معارضة للغرب حسب سياستها الرسمية إلا أن قبولها للثورات دون تمييز أو دعمها لثورات غير مؤهلة بسبب الانتماء الحزبي أو لتصفية حسابات على حساب المصالح القومية يجعلها تقع أسيرة نظرتها الضيقة لتصب في النهاية في خدمة الأجندات الغربية.

حزب الله الذي يعتبره قطاع كبير من الشارع ممثلا للمقاومة لم يكن موفقا في الإسراع في تأييد الثورة في ليبيا رغم أن نفوذ حزب الله بين الثوار ربما صفر. وتعميمه المتسرع في دعم التغيير في ليبيا ووضعه على نفس درجة دعم التغيير في مصر خطأ استراتيجي. والحقيقة أن دور حزب الله وسوريا ربما يكون التالي لو سقطت ليبيا وسيدفع حزب الله الثمن قبل الجميع.

حماس كانت في البداية على نفس النمط وظهر نوع من الدعم للثورة في ليبيا وربما اعتقدت حماس أن وجود إخوان ليبيا ضمن الصورة وبسبب دعم القرضاوي لها فالموقف يصب في صالحها. لكنها اكتشفت سريعا عدم دقة ذلك واكتفت بنقل الأخبار ولكن بالمصطلحات السائدة التي تشيطن القذافي وتجعل من الثوار قديسين وهذا في رأيي موقف ضعيف لكنه مفهوم حسب البيئة العربية.

إيران تقع في خطأ كبير معتقدة أن هذه المعركة سوف تصب في صالحها كسابقاتها في العراق وباكستان فهناك اعتقاد إيراني ولو جزئي أن نتيجة حرب العراق صبت في صالحها لأن نفوذها ضمن النظام السياسي في العراق تزايد وهذا في رأيي خطأ. موقف إيران في دعم الثورة في اليمن غير مبرر ونفس الأمر في ليبيا. وحسب تحليلينا السابق فنجاح التغيير في ليبيا سوف يسرع الضغط على سوريا وسيصل لإيران أخيرا.  أما موقف إيران الذي يؤيد الثورة في ليبيا ويعترض على التدخل الغربي فليس له معنى ولا يصلح. ودعمها للثورة في ليبيا ومعارضتها لها في سوريا يحمل درجة من التناقض لأنهما متشابهتي الدوافع. من المفهوم دعم الثورة في البحرين لكن من غير العملي الاعتقاد بنجاح هذا الدعم في تحقيق تغيير فعلي. ومن غير المفهوم دعم الثورة في اليمن إلا بالبعد الطائفي وعليه ربما من الأفضل لإيران الانتباه للفرق بين ما يحصل باليمن وليبيا مقارنة بمصر وتونس.

2-3 مواقف حريصة ولكن:

وهي نوعان بعضها أدرك الخلل في ثورات ليبيا وسوريا واليمن وتوقف عن دعمها رغم تأييده لها لو ظلت محلية وسلمية. ونوع آخر أدرك الخلل مبكرا في مواصفاتها الأساسية ولم يدعمها أصلا لكنه لم يستطع إعلان مواقف صريحة.

أهم الدول للموقف الأول تشمل روسيا والصين والبرازيل والهند وبعض الدول الأوروبية  وبعض أميركا وبعض مثقفي اليسار في الغرب. الموقف الآخر يشمل كوبا والاتحاد الإفريقي وفنزويلا وقوي يسارية في الغرب والعالم وقليل جدا من مثقفي العالم العربي من يسار أو إسلاميين أو قوميين أو لبراليين.

مواقف المثقفين العرب والفلسطينيين كانت المفاجأة الأكبر. فكثير ممن اشتهروا بدعم المواقف الوطنية لصدام حسين وحزب الله وحماس وتجاوزوا الفروق بينهم في خدمة موقف عربي قومي أكثر علوا, تخلوا عن ليبيا كأنها لا شيء وأيدوا الثوار رغم انكشاف موقفهم وبرروا طلبهم التدخل وهاجموا القذافي بل استمر البعض في اتهامه بالعمالة رغم كل ما يحصل. لقد سقط الكثير من المثقفين العرب في هذا الأمر بشكل غير مفهوم.

من غير المريح لأي مثقف حر الاستماع لتعليقات عزمي بشارة مثلا الذي اعتبره الكثيرون رمزا للمثقف الحر ليصبح محللا موجها لمحطة الجزيرة. وكم استغربت السلاطة القوية في مهاجمة القذافي من أكثر من كاتب عربي بلغة مغموسة بحقد وتشف بعيد عن الموضوعية وكأن هناك بعد شخصي لها. وتأسف كثيرا من كتاب آخرين يعترفون بفضيحة الدعم الغربي والتدخل ويتخوفون من نتيجة ذلك ضد ليبيا لكنهم يصرون على تحميل القذافي كامل المسئولية.

ثالثا: توصيات: نحو لغة مناسبة في وصف الثورات

لا بد من وضع مجموعة مبادئ تجعل تقييم الثورات موضوعيا ومن غير المعقول الرقص دو تمييز على وقع كل من قرع. ولعل في التالي بعض المبادئ:

  • أي ثورة لا تستطيع الانتصار بإرادتها الشعبية وتحتاج لدعم من الأعداء لتحقيق النصر تعتبر ثورة فاشلة ومشبوهة وتتلطخ سمعتها مستقبلا وتصبح أسيرة لإرادة من دعمها.
  • قيادة بعض القوى لأعمال التغيير بما لا يتناسب مع حجمها يعبر عن مشكلة حقيقة ومن الأولى لهذه الدول عدم المبالغة في تقدير نفسها أو قوة دعم من يدعمها.
  • لا يجوز استعمال مصلحات تسحب شرعية نظام قائم قبل تبلور موقف شعبي واضح دون لبس لفقدان هذه الشرعية ولا يكفي أن تقول هيلاري كلينتون أن نظاما ما فقد الشرعية لنصفق وننزع هذه الشرعية. وعليه من غير المناسب استعمال مصلحات قوات القذافي أو سحب شرعية علي صالح أو القذافي بمجرد طلب ذلك من الغرب.
  • طالما ظهر هناك درجة من الدعم الشعبي للنظام تعادل أو أكثر من المعارضة فمن غير المقبول سحب شرعية النظام وإسقاط الحاكم ومن الأفضل احترام الشرعية الدستورية عند ذلك.
  • إذا لم يكن هناك شرعية دستورية للحاكم فمن الأولى تحقيق ذلك بأسرع وقت.
  • لجوء الثورة للسلاح حتى لو مارس النظام العنف يعتبر اعترافا بفشل الثورة في تجنيد الشعب.
  • لا بد من فهم البعد القومي والإقليمي والدولي قبل إصدار الأحكام. ومن غير المقبول دعم أي حركة احتجاج دون فهم دوافعها.
  • لا بد من تعاون الأنظمة المستهدفة ومن غير المناسب أن تتبرأ من بعضها خوفا أو اعتقادا بالاختلاف. ولا يعيب النظام القومي التعاون مع مثيله. وعليه لا بد من درجة من التعاون بين سوريا وليبيا واليمن والسودان والجزائر ومن المفروض توفر درجة من التفهم من قبل مصر وتونس.