صدام حسين والشعب الفلسطيني
صدام حسين والشعب الفلسطيني
7-3-2007
د. سلمان محمد سلمان – أستاذ الفيزياء النووية والطاقة العالية– فلسطين
الحديث عن الرئيس العراقي ضمن انتلجنسيا الليبراليين الجدد العرب لا يمكن أن يخرج عن الإدانة. ورغم ذلك فهم يعرفون أفضل من ذلك. تحت القشور الإعلامية والتوجيه المبرمج تكمن عاطفة وتقدير عميق للرئيس العراقي لا يستطيعون إهمال وجودها عند الجمهور العريض. وهذا يفسر إصرارهم على إدانة الرئيس الأسير.
بالنسبة لأهل العراق فهم يعرفون صدام حسين ويستطيعون الحكم علية من تجارب الحياة الشخصية معه. وكما نرى حتى الآن فكل من هاجمه من الناس اعتمد إما على الاحتلال أو الشرخ مع إيران أو على الطائفية. لا شك أن هناك حاقدين على صدام حسين في العراق لكنهم حاقدون بطريقة لا يمكنك فيها التعاطف معهم.
أولا لأن الهجوم يتم متساوقا مع الغزو وخدمة له وثانيا لان الشماتة لؤم فحتى لو كنت معارضا لحكم صدام حسين فمن العار الاحتفال لأسره من قبل الاميركان. لم يسقط صدام من قبل شعبه ولزمت دولة عظمى بأحلاف ونفير حتى استطاعت احتلال العراق.
ورغم ذلك بدأت المقاومة منذ أول يوم وهناك من يوالي صدام من فصائل المقاومة مما يشهد بثبات موقفه الوطني والتاريخي. وكما يبدو فهم يحبون الرجل. فليس هناك ما يجبرهم على الولاء له وهو في الأسر والمعاناة إلا وفاء النفس الأبية وتقدير الدور الوطني. وبغير ذلك يصبح صعبا فهم السلوك الإنساني.
محور مقالتنا رغم هذه المقدمة هو موقف الشعب الفلسطيني: شعب فلسطين يعاني أبد الدهر من الظلم والتشويه وهو يعرف أكثر من غيره معنى الخذلان والجحود وما تعنيه السياسة الأميركية. وهو شعب يعاني يوميا بحيث لا يستطيع حتى لو أراد تجاهل التذكير بعمق مؤامرة أميركا على العرب.
فلسطين تحب صدام حسين مهما أنكر البعض. ورغم أن هذه المحبة يمكن أن تكون مكلفة كما حصل في حرب الخليج إلا أن من الصعب إخفاء الشعور العميق بالتعاطف من قبل الشارع العادي.
ربما يختلف بعض المتنفذين أو أصحاب المصالح بمواقفهم غير المتعاطفة لكن لهجة الفلسطينيين والموالين للغرب منهم رغم سلبيتهم تدل على حرص على عدم مهاجمته والسبب بسيط. أنهم يعرفون أن الشعب يتعاطف مع صدام حسين حقيقة رغم عدم شعبية هذا التعاطف عالميا.
والشعب طبعا لا يعرف صدام حسين شخصيا ولم يجرب حكمه حتى يقيّم دوره كحاكم وما يسمعه الشعب عن قسوة صدام يخلق ردود فعل مختلفة: فالبعض ينتقد قسوته لكنه يبررها بقسوة خصومه وصعوبة حكم العراق متعدد الأعراق والمذاهب. ويتم التذكير بان من الصعب حكم العراق دون شدة وهذه ملاحظة ربما تكون ظالمة لأهل العراق وهم أعرف بحالهم.
البعض الآخر ينتقد القسوة ولكن يبررها بقسوة الظروف والأعداء الخارجيين المحيطين به ويعذرون قسوته مقارنة بغيره. والتبرير عادة: ربما كان حاكما ظالما لكنه لم يكن عميلا يوما وهذه يكفيه شرفا مقارنة بغيره من الفاسدين والطغاة والعملاء بنفس الوقت. وهذا ربما يفسر إصرار أعدائه على الطعن بوطنيته رغم كل ما يحصل معه.
لا يحاول الفلسطينيون رغم ذلك تقييم شخصية صدام وحكمه الداخلي كثيرا ويكتفون بتأكيد الإعجاب بدوره الوطني والقومي المميز منذ حرب الخليج.
قبل حرب الخليج كان الرأي الفلسطيني منقسما بل ربما غير مهتم كثيرا بتقييم حكم العراق لأنه لم يدرك أو يلاحظ دورا مميزا في مواجهة الغرب. رغم التقدير الخاص للدور العراقي في حروب فلسطين ومقابر الشهداء العراقيين التي تذكر بذلك.
بالنسبة للفلسطيني كما هو حال العربي فالعدو الأول إسرائيل وأميركا وكل من يقف بمواجهتهم يكتسب التقدير حتى لو هزم. وهو تعبير بسيط للمحدد لكنه صحيح؟
الحرب الإيرانية العراقية:
عندما بدأت حرب العراق مع إيران عام 1980 كان الرأي العام في فلسطين مناوئا للخطوة. ورغم أن هناك مبررات تذكر في تفسير بداية تلك الحرب بسبب “التدخل الإيراني والأطماع الفارسية والشيعية” إلا أن الفلسطيني لم يستوعب كل ذلك خاصة انه كان متفائلا بالثورة الإسلامية ويأمل انتصارها بديلا للشاه.
فهم الشارع دور إيران ايجابيا في تلك المرحلة ولم يستطع تقبل دور العراق الجديد في إعلان الحرب. وبقي موقف الشارع الفلسطيني سلبيا من العراق في حربها ضد إيران حتى بدء الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين عام 1982.
في تلك المناسبة أعلن العراق إيقاف الحرب من طرف واحد والانسحاب من الأراضي الإيرانية والاستعداد للتعاون مع إيران لتقديم الدعم للفلسطينيين.
طبعا التفسير البسيط لتلك الحركة يمكن أن يكون الرغبة العراقية بإنهاء الحرب لانعدام جدواها وهذا صحيح. وقد ظهر خلال السنوات اللاحقة إدراك العراق وصدام حسين شخصيا لمخاطر الاشتباك الذي أرادته أميركا لأقوى قوتين في الخليج. وقد حاول العراق تجاوز الحرب لكن دون الاستعداد طبعا للاعتراف بالبدء بها أو تحمل مسئوليتها.
إيران أصرت على إسقاط النظام كشرط لإيقاف الحرب وما يتبع ذلك من عقوبات على الشعب والدولة. وكان من الصعب توقع قبول العراق وخاصة صدام حسين بذلك.
واستمرت الحرب رغم صدام ست سنوات أخرى لم تثمر إلا مزيدا من القتل والدمار لكل من إيران والعراق وترسيخ عداوة بين طرفين يكنان العداء لأميركا بنفس الدرجة. لسوء الحظ استطاعت أميركا إبقاء الحرب رغما عن الطرفين وضد مصلحتهما.
وحسب التصريحات فقد أكدّ صدام حسين انه مدرك للمؤامرة ويعرف من يبقيها. وكما يبدو فقد اعتقد أن باستطاعته الاستفادة من سنين الحرب لبناء ترسانة عسكرية. وعندما انتهت الحرب لم تمهل أميركا العراق أي فرصة وبدأت مطالبته بالاستسلام وتحديد الجيش والدخول ضمن تحالفات ما بعد كامب ديفيد.
ولأسباب مختلفة لم يقبل العراق. ولعل لشخصية صدام حسين دور في ذلك. لم يقبل العراق الانضواء مع إدراكه العميق للخلل الاستراتيجي في المنطقة وفقدان الحليف ورغم هزال العلاقة مع الرفاق العرب مهما تم الادعاء بصدقها.
كيف يفهم الشعب الفلسطيني الحرب على الكويت:
رغم الأخذ بالاعتبار العلاقة الخاصة تجاه الكويت في الوجدان العراقي لم يذكر أي من قيادات العراق أو الرئيس صدام حسن نفسه سببا مقنعا لشن الحرب على الكويت. فإذا كان النفط وتهريبه أو التحدي في جدولة الديون سبب فهو سبب هزيل لا يبرر حربا من نوعية هذه الحرب. خاصة أن العدو متربص ويريد تدمير العراق وترسانتها العسكرية.
وبالأخذ بالاعتبار إدراك الرئيس صدام للمؤامرة خلال الحرب مع إيران فمن المستحيل تصديق عدم إدراكه للفخ الجديد. فهل من المعقول انه سمح للبساطة أن تسيطر على القرار وهل من الممكن أن تكون عواطف العراقيين الكاملة قد سيطرت على العقل التحليلي لنظام خارج من حرب ضروس.
التساؤل مستمر بين الفلسطينيين حتى الآن. وأكثر المواقف تعاطفا يبررها بخطأ وأسوأها يفسرها بخدمة للغرب بطريقة ملتوية. وبين الرأيين أغلبية لا تريد فهم سببها أصلا.
يتصاحب مع ذلك شعور غامض أن الرجل لا يمكن أن يحارب من قوى عظمى بهذه القسوة دون سبب أيضا. ومن الصعب تصديق تآمر من طرفه مع الغرب كما يروج البعض.
واكتفى الفلسطيني العادي بتفسير الأمر أن الغرب عاقب صدام والعراق لأنها قوة حقيقية قابلة للتطور. ولأن العراق يحاول تطوير البنية التصنيعية للقطاعات المدنية والعسكرية بسواء. وأن عدم موالاته للمشروع الأميركي الصهيوني يمثل المفصل للعدوان عليه.
وهذا يكفي للاستمرار بالتعاطف معه وهو السبب العام لاستمرار التعاطف مع العراق منذ ذلك الحين. مرة أخرى القاعدة المفصلية هي أن من يعادي أميركا وإسرائيل حقا لا يمكن أن يكون خائنا ويستحق الدعم لذلك في زمن يعز فيه تواجد الحكام غير المرتبطين بالدوائر الأجنبية.
ولكن عودة للحرب على الكويت:
لا يمكن تجاوزها لأنها كانت بداية التراجع الاستراتيجي ومنها بدأ مسلسل تدمير العراق ومن الصعب قبول نتائجها فقط بالتفسير البسيط بان صدام خدع أو تم التغرير به.
أحاول – وقد نشرت ذلك عام 1990- التذكير بأمور ربما تفسر لماذا تمت الحرب:
في أيار عام 1990 كان هناك اجتماع لمجلس التعاون العربي في عمان تكلم فيه صدام طويلا. في ذلك الحديث تطرق صدام حسين للتطورات الدولية وانهيار الكتلة الشرقية وبداية بروز دور أميركي متحكم بالعالم ربما يستمر لسنوات طويلة. حقبة الهيمنة الأميركية.
تساءل صدام: “في مثل هذا الوضع هل نقف مكتوفي الأيدي لتسيطر أميركا على المنطقة سيطرة مطلقة ونصبح عبيدا لها أم أن علينا عمل شيء لمنع الوصول لذلك. ربما نستطيع تغيير التوجه”. وكما يبدو فقد كان للكلمات تأثير ذعر على الرئيس المصري الذي اعترض وانسحب من الاجتماع.
وانعقد مؤتمر القمة العربية بعد شهرين في بغداد دعى فيها صدام للعودة للأخلاق العربية والشهامة. ويبدو أن ذلك المؤتمر فشل في تحقيق أهدافه ولم تمض أسابيع حتى قام العراق باحتلال الكويت.
عند الربط بين الموقفين والحدثين وتداخل ذلك مع الموقف الأميركي والعدائي والتدهور في الموقف في الاتحاد السوفييتي يمكن وضع تفسير منطقي ربما لا يكون حقيقيا لكنه منطقي ليفسر مبادرة ومغامرة بحجم احتلال الكويت.
ربما اعتقد صدام أن من الممكن منع انهيار الاتحاد السوفييتي من خلال صنع استقطاب في منطقة الشرق الأوسط وقلب منطقة النفط. استقطاب يحفز القوى المناوئة للانفتاح الغوربتشوفي. وربما تؤدي تلك الحالة إلى سقوط غورباتشوف وسيطرة التيار الآخر للعودة بالاتحاد السوفييتي إلى موقفه التاريخي من الغرب.
وما يبرر هذا الظن هو أن موقف القيادة السوفيتية كان بإجماله مناوئا لغوربتشوف. وتأكد ذلك لاحقا في محاولة عزله الفاشلة عام 1991. وهذا يعني ربما أن القوى ذات الفعالية قد شجعت صدام فعلا على خطوة هو المفكر بها لمنع انهيار السوفييت.
فإذا رجعنا لكلمات اجتماع أيار عام 1990 نجد أن التحرك يبدو منطقيا تماما من منظور دولي استراتيجي مع انه يبدو جنونا من الناحية المحلية عند الاعتبار مقابلة العراق أمام الغرب كله. ولكنه لا يبدو مغامرة غير مدروسة إذا أدخلنا الدور السوفييتي المحتمل وبتشجيع حقيقي من قوى رئيسة في الحكم السوفييتي.
إذا قبلنا بهذه النظرية يصبح سهلا تفسير مبادرة الحرب ومنطقيا تفسير محاولة عزل وإسقاط غورباتشوف التي كان من المفروض نجاحها بكافة المعايير القانونية أو العملية لنظام مثل الاتحاد السوفييتي.
فشل العزل لغوربتشوف لم يكن بسبب سوء تخطيط من القيادة السوفييتية بمقدار كونه سوء تقدير لموازين القوة ومستوى ولاء الجيش الأحمر. لم تكن الجماهير السبب ولم تكن مظاهرات يلتسين هي المحرك. فالاتحاد السوفييتي دولة الجيش الأحمر لا يمكن إسقاطها بمظاهرات.
السبب الحقيقي لفشل الانقلاب على غورباتشوف تلخص في دور الجنرال غراتشيف الذي كان رئيسا للأركان. حيث لعب دور الملتزم بأوامر وزير الدفاع للانقلاب لكنه أعطى الأوامر بعكس ذلك. ويمكن الادعاء أنه لولا غراتشيف لنجح الانقلاب ولتغير وجه التاريخ الحديث.
ما يدعم هذه المقولة أن غراتشيف كوفيء مباشرة بعد تفكك الاتحاد حيث أصبح وزير الدفاع. وفي زمنه سقط البرلمان وتم قصفه وحرقه في خطوة أخرى لضرب القوى السوفيتية. بقية التطور معروفة ويمكن الادعاء أن عهد غراتشيف تميز بالتراجع الاستراتيجي للقوة السوفيتية وبالهزال والضعف والانهيار العام في المعنويات للجيش الأحمر الذي أصبح جيش روسيا.
استمر نجم غراتشيف حتى ضاع في حرب الشيشان الأولى وذهب يلتسين لاحقا ليبدأ عهد جديد لبوتين يحاول فيه إعادة تعريف الهيبة الروسية لكن بعد تفكك وانهيار من الصعب إعادته بعد خمسة عشر عاما من التمدد الأميركي والتراجع الروسي.
ولا شك أن نجاح كلينتون الذي تميز بالتهدئة والانفتاح على العالم قد خفف من شعور الروس بالهزال والهزيمة مما جعلهم أكثر قبولا للدور الثانوي الجديد.
عودة:
هل يمكن لهذا التحليل أن يفسر السبب الحقيقي للحرب على الكويت. برأيي يبدو ذلك منطقيا ويفسر عقلية صدام حسين أيضا. فصدام رجل له إحساس بالتاريخ عظيم وهو عمل طوال فترة حكمه على ترسيخ دور عالمي للعرب والعراق واعتقد بإمكانية بعث الحياة للعراق دولة الحضارات الأولى وعاصمة العباسيين.
بعقلية من هذا النوع يمكن توقع 3 مقومات شخصية تحكم من يحملها:
- شعور بالمهمة الحضارية والعظمة يمنع من يحملها من قبول دور ثانوي أو تابع وهذا يفسر استحالة ارتباط صدام بدوائر أجنبية مع أن ذلك طبعا لا يمنع تعاونه مع بعضها لتحقيق استراتيجيته الكونية.
- شعور المهمة التاريخية يمكن أن يحمل صاحبها نفسه مهمات اكبر من طاقته واعتقاد صدام حسين بإمكانية تغيير مسار التاريخ من خلال منع انهيار السوفييت يتناسب مع المهمة التاريخية.
- لا يمكن لمن يؤمن بمثل هذه المهمة التاريخية أن يهمل أو يتجاوز مسألتين تحددان سمة صاحب المهمة التاريخية ضمن الساحة العربية: دمج الفهم الإسلامي بالعربي واعتبار قضية فلسطين مرجعية الحقيقة المطلقة لجدوى الخلاص. هكذا كان دور صلاح الدين وقطز وبيبرس وقلاوون وعبد الناصر.
ويبقي السؤال لماذا لم يفسر احد من أركان النظام أو صدام نفسه هذه المهمة. من الصعب تصور إعلان صدام عن هذا الهدف بعد فشل الاتحاد السوفييتي. فالفشل كان عظيما لدرجة تجعل الحديث عنها مجلبة للوم. ولكن هذا لا يلغي الاحترام المميز الذي يكنه كثير من عمداء الحقبة السوفيتية لصدام وبكاء وزير الدفاع السوفييتي أكثر من مرة على مآسي العراق وصدام حسين. أليس في ذلك لمحات ذات دلالة.
تبقي الحقيقة طبعا في ضمير صدام حسين.
رغم أن هذا التحليل ليس مقولة مألوفة في الشارع الفلسطيني إلا أن الشعب احترم صدام لدوره التاريخي الغامض رغم فشله. بالنسبة للفلسطيني (وأي إنسان حر كريم طبعا) لا يمكن قبول مقولة “العبرة بالنتائج فقط”. لكن الأهم هو “العبرة بالمبدأ والطريق والوسيلة”. وهذا طبعا متوقع من شعب يعاني الظلم والهزائم منذ قرن من الزمان. فلو تبنى مبدأ “العبرة بالنتائج” لتخلى عن نفسه منذ زمن طويل. وفقط من يؤمن “بالمبدأ والوسيلة الشريفة” يستطيع الصمود كالشعب الفلسطيني. بعقلية من هذا النوع لا يهم كثيرا الانتصار لذاته بمقدار كونه تتويجا لوسيلة ومبدأ شريف. انه الفرق بين طريقة معاوية وطريقة الحسين.
صدام سوف يبقى في ضمير الفلسطينيين كما هو في ضمير العرب رمزا لصمود ضد الغرب ومؤامراته رغم تجرعه الهزيمة ورغم الكثير من النقد للحقبة السابقة من عهده قبل عام 1990. الحكم على صدام حسين يحسمه موقف الغرب منه وما عدا ذلك تبقى تفاصيل ربما تربك الصور الذهنية المثالية التي يريد النصير تخيلها عن صدام حسين ونظامه لكنها لا يمكن أن تلغي حقيقة الدور الاستراتيجي.
هزيمة الأميركيين في العراق تبدو هذه الأيام أقرب للواقع من أي فترة مضت والثقة بصمود النخبة المجاهدة من العراقيين الشرفاء تبدو واعده. لكن علينا أن نتذكر أننا ندعمها ليس لأنها تنتصر أو لا تنتصر. ورغم حبنا للنصر إلا أن المقياس أولا هو عدالة الموقف وصدق الانتماء. والنصر عند ذلك يصبح مكافأة للصدق وليس هدفا منفصلا عن الوسيلة والمبدأ.
النصر يرسخ شعور أصحاب العدالة والمبدأ بصدق موقفهم وهو الشهادة الحقيقية للبعد الاستراتيجي. ورغم أن خطة صدام لإضعاف أميركا حسب تحليلنا تختلف عن حرب التحرير الحالية إلا أن نجاح المقاومة سوف يهزم أميركا استراتيجيا أكثر بكثير من بقاء الاتحاد السوفييتي.
سقوط السوفييت كان ضربة لمشاريع المقاومة العالمية ضد هيمنة أميركا. لكن النظام السوفييتي كان منهارا من الداخل ولم يكن ممكنا الإبقاء عليه مهما حاولت القوى الداعمة غير ذلك. لكن نصر مقاومة العراق يمكن أن يقضي على المشروع الدولي لأميركا وللرأسمالية العالمية بشكل أكثر تأثيرا من بقاء السوفييت. وهذا يمكن أن يكون أفضل هدية لصدام وتكريم له في يوم تقرير حكم الغزاة عليه.
ويبقى سؤال آخر:
لقد جاهد حسن نصر الله ويحبه الفلسطينيون بنفس الطريقة التي يحبون بها صدام رغم انه لا يحمل الود لصدام بل ربما يناصبه العداء بسبب المذهبية والعلاقة الإيرانية فكيف يستقيم الأمر.
وبدرجة مشابهة يرى الفلسطينيون دورا إيرانيا ايجابيا ويعتزون بالقوة الإيرانية أمام الاميركان رغم معرفتهم بالدور الإيراني السلبي في العراق. إنهم يدينون الموقف الإيراني في العراق في نفس الوقت الذي يتمنون لإيران النصر في أي مواجهة مع أميركا. ويدعمون نصر الله بنفس الدرجة التي يدعمون بها أنفسهم رغم العلاقة غير المريحة لنصر الله مع بعض القوى العراقية. كيف يستقيم ذلك.
هل هو التناقض. لا يبدو أن ذلك يفسر الأمر. كما يبدو فان الشعب الفلسطيني يمارس التقييم والحكم حسب الوسيلة والمبدأ وضمن هدف استراتيجي رئيسي.
كل من يواجه أميركا وإسرائيل يستحق الدعم شريطة ألا يكون عميلا. لا يهم كثيرا (مع أن ذلك مؤذي) موقفه من قضايا الخلاف العربي أو الإسلامي فتلك مشاكل ومنغصات فرعية خاطئة لكنها غير كافية لليأس من جدوى الموقف. بمعنى آخر كل قائد غير عميل للغرب يمكن التسامح مع أخطائه شريطة أن يواجه الغرب بشكل مقنع.
وهذا يفسر وقفة الغالبية العظمى مع حزب الله في لبنان ومع إيران ضد أميركا في التسليح النووي ودعم صدام في معركته مع الغرب.
ورغم أن مثل هذه النتائج غير مريحة إلا انه حكم الأولوية. طبعا كنا نتمنى أن يكون من نؤيدهم حلفاء لكن هذا حكم الحقيقة. وهذا ما يسبب الألم لأنه يبقي الأمل ناقصا بنشوء تحالف عميق أكبر من الخلافات المذهبية وأعمق من التناقضات القومية يجمع أبناء الإسلام والعروبة للعودة بحضارة العرب المسلمين للواجهة العالمية.
ألا يكفي هذا الهدف العظيم لتفسير تسامح الناس مع خلافاتنا وظلم حكامنا شريطة عدم العمالة للأعداء.
هكذا نقيم ونميز خلفاء بني أمية والعباسيين: فرغم تحفظنا على الكثير من سلوكياتهم ووسائل حكمهم وظلمهم إلا أن الظن السائد أنهم لم يكونوا عملاء لقوى أجنبية بشكل عام وكانت الفتوحات مستمرة في اغلب عهودهم. بدأنا ندينهم في نهاية العصر العباسي لان دورهم أصبح مشبوها بالولاء للأجنبي.
الشعب الفلسطيني يحب صدام لهذه الأسباب. وهو لا يحبه لأنه هاجم الكويت أو إيران فهو يعتبر تلك الأمور أخطاء قاتلة. لكن تقييمه لصدام بالشعور التاريخي وبمنظور صاحب الموقف يجعله لا يتوقف طويلا لموقع النقد والخطأ. ويجعل الفلسطيني مؤيدا له رغم عدم علمه المؤكد بوسائل حكمة ومدى عدله من ظلمه.
مثل هذا التقييم مسئولية العراقيين. وهم وحدهم يمكنهم الشهادة له أو عليه. لا تسأل الفلسطيني عن ذلك إذ يكفيه أن صدام لم يتخلى عن فلسطين منذ 1990 رغم أن التخلي عنها كان أفضل ضمانه لحكمه لو أراد ذلك.
ما حفزني لكتابه هذه المقالة ما رأيت من مواقف معيبة في مشاهد الحكم الجائر تحت حراب الاحتلال وتباهي بعض القوى بعدالة القضاء ومن ثم محاكمة الرئيس ورفاقه بعد الحكم بقضايا أخرى وما رافق ذلك من حملات تشويه مكررة في الإعلام العربي.
بالإضافة إلى مجموعة مواقف صغيرة رأيتها في مسيرات الحداد الفلسطيني ضد مذابح بيت حانون حيث كانت أعلام عراقية ترتفع مؤكدة وحدة المصير.